كتاب : لاهوت المسيح عند آباء ما قبل نيقية – أسرة القديس ديدموس للدرسات الآبائية – الآباء في القرنين الثاني و الثالث

لاهـوت المسـيح

عنـد آبـاء ما قـبل نيقـية

كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس

سبورتنج – إسكندرية

أسرة القديس ديديموس الضرير للدراسات الكنسية – دراسات كنسية متنوعة (2)

هل تؤمن الكنيسة بالسيد المسيح كإله منذ تأسيسها أم منذ مجمع نيقية؟!

مقدمة

قد يبدو عنوان هذا الكتاب صعباً للوهلة الأولى , لكن يمكننا أن نتفهم أهمية موضوع هذا العنوان من خلال الإجابة على الأسئلة الثلاثة الآتية و المُرتبة بحسب عنوان الكتاب.

لماذا لاهوت المسيح؟

كان وسيظل لاهوت المسيح هو حجر الزاوية في إيماننا المسيحي , الحجر الذي قدمت كنيسة المسيح جهادا حتى الدم من أجل الحفاظ عليه ضد كل ما قام ضده من بدع و هرطقات.

و هذا الجهاد الذي قدمته الكنيسة لم يكن مجرد دفاع عن فكرة مُجردة قد تم التمسك بها لأي سبب من الأسباب , بل بالأحرى لقد جاء كنتيجة لمعايشة الكنيسة الأمينة و الصادقة لشخص السيد المسيح الإله المتجسد. كما أن هذا الجهاد في الحقيقة جاء كإمتداد لما قام به الرسل من شهادة للإيمان الذي استلموه من السيد المسيح – كدفاع بولس الرسول عن نعمة الخلاص بيسوع المسيح فقط و ليس بر أعمال الناموس الفريسية – شهادة قال عنها بطرس و يوحنا الرسولان : “لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا و سمعنا” (أع 4 : 20).

و قد ارتبط الإيمان بلاهوت المسيح في فكر الكنيسة ارتباطا وثيقا بقضية الخلاص. فلو لم يكن السيد المسيح إلها , لما أمكن لخلاصنا أن يتم أو يكتمل. لذلك فقد كانت الكنيسة حريصة دائما على تسليم بركات و مفاعيل هذا الخلاص الذي تحقق بتجسد الله الكلمة إلى أبنائها من جيل إلى جيل.

و لذلك كان و سيظل عمل عدو الخير في كل مكان و زمان مُوجهاً دائما لمحاولة نزع هذا الإيمان من قلوب الناس من خلال بث أفكار بدع هلاك يبتدعها على ألسن بعض مَن فقدوا أو لم يتذوقوا حلاوة اللقاء و التلامس الخلاصي مع شخص ربنا يسوع المسيح. الأمر الذي وقفت و ستقف كنيسة المسيح ضده على الدوام.

لماذا الآباء؟

تُعتبر أقوال الآباء و كتاباتهم و سيرهم من العناصر الأساسية في التقليد الكنسي الذي من خلاله وصل إلينا الإيمان المُسلم مرة للقديسين (يه 3). فإذا كان الكتاب المقدس بعهديه يأتي على رأس عناصر هذا التقليد الكنسي , إلا أن أهمية الآباء و أقوالهم و سيرهم تأتي لأنهم كانوا شهودا للفهم الصحيح و المُعايشة الحقيقية لبشارة الخلاص المُعلنة في الكتاب المقدس كما سلمها ربنا يسوع المسيح لرسله و تلاميذه القديسين. و من هنا تأتي أهمية رجوعنا و دراستنا لأقوال الآباء كشهادة أمينة و صادقة عن مرجعية و أصالة أي فكر أو موضوع نتطرق إليه.

لماذا قبل نيقية؟

يزعم البعض في الوقت الحاضر أن إيماننا بلاهوت السيد المسيح هو أمر استحدثه القديس اثناسيوس في مجمع نيقية , و أن هذا الإيمان لم يكن ثابتا في الكنيسة قبل ذلك. بينما الحقيقة هي عكس ذلك تماما , فلم يكن ما فعله القديس اثناسيوس إلا أنه دافع عن لاهوت السيد المسيح بحسب ما تسلمه ممن سبقوه من آباء , إذ كان هذا ثابتاً و مُستقراً من العصر الرسولي. مع اعترافنا بأن دفاع القديس اثناسيوس كان هو الأقوى و الأكثر تحديداً لصياغات الإيمان المسيحي.

نلاحظ أيضا أن آريوس أيضا لم يكن هو أول من أنكر لاهوت السيد المسيح , بل كان هناك آخرون أنكروا لاهوت السيد المسيح, بل كان هناك آخرون أنكروا لاهوت السيد المسيح , منهم مركيون و بولس السموساطى و غيرهم , إلا أن هرطقة أريوس قد تزامنت مع تحول الامبراطورية الرومانية إلى الاعتراف بالمسيحية كإحدى الديانات الرسمية في الامبراطورية و ذلك بحسب “منشور ميلان” او “منشور التسامح الدينى” سنة 313 م. بل و أصبح الإمبراطور قسطنطين الكبير مسيحيا . كل ذلك أتاح المجال لكي ينعقد مجمع مسكوني يدعو إليه الامبراطور و يحضره بنفسه , بعد أن كانت المسيحية ديانة مُضطهدة بواسطة الأباطرة الرومان. و من هنا أخذت المواجهة بين القديس اثناسيوس و أريوس الهرطوقي الشكل المسكوني أي على مستوى المسكونة مُتمثلة في كل الكراسي الرسولية المسيحية.

و من ثم فإن تقديم شهادة آباء ما قبل نيقية عن لاهوت السيد المسيح إنما يقدم رداً فى غاية القوة عن أصالة هذا الإيمان الكنسي منذ عصر الرسل , و يفضح مكائد و أعمال عدو الخير ضد الكنيسة , و يُثبت أن ما قدمه آباء نيقية من صياغات و تحديدات عقائدية ما هو الا إمتداد استلموه من الرسل عبر تسلسل الآباء و لم يستحدثوا فيه شيئا , الأمر الذي أعلنه القديس اثناسيوس الرسولي بطل نيقية مُتفاخرا في كتاباته و دفاعاته عن الإيمان الرسولي.

و سنستعرض الآن بعض فقرات من كتاباته التى توضح هذا الأمر…

1- القديس اثناسيوس يقول أن إيمانه هو بحسب تقليد الكنيسة :

“دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة و تعليمها و إيمانها , الذي هو من البداية و الذي أعطاه الرب و كرز به الرسل و حفظه آباء الكنيسة. و على هذا الاساس تأسست الكنيسة , و من يسقط منه فلن يكون مسيحيا ولا ينبغي أن يُدعى كذلك فيما بعد “

و بحسب الإيمان الرسولي المُسلم لنا بالتقليد من الآباء , فإني قد سلمت التقليد بدون إبتداع أي شىء خارجاً عنه. فما تعلمته فذلك قد رسمته مطابقا للكتب المقدسة.”

“لأن ما سلمه آباؤنا هو عقيدة حقيقية , و هذه هي سمة المُعلمين اللاهوتيين , أن يعترفوا بنفس الأمر كل واحد مع الآخر و أن إلا يختلفوا لا عن بعضهم البعض ولا عن آبائهم. أما هؤلاء الذين ليس لهم هذه السمة فيجب ألا يُدعوا معلمين لاهوتيين حقيقيين بل أشرارا”

“أما معلنو الحق القديسون الحقيقيون فيتفقون معاً ولا يختلفون , فبالرغم من أنهم عاشوا في أزمنة مختلفة , إلا انهم جميعا يتبعون نفس الطريق , لكونهم أنبياء لإله واحد و يُبشرون بنفس الكلمة في هارمونية و إتفاق”

“و أما إيماننا نحن فمستقيم و نابع من تعليم الرسل و تقليد الآباء و مشهود له من العهدين الجديد و القديم كليهما.”

2- القديس اثناسيوس يقول أن ايمان الهراطقة ليس بحسب تقليد الكنيسة :

“ها نحن نُثبت أن هذا الفكر قد سُلم من أب إلى أب. أما أنتم أيها اليهود الجدد و تلاميذ قيافا , كم عدد الآباء الذين يمكن ان تنسبوهم لتعبيراتكم؟ ليس حتى واحد ذي فهم و حكمة , لأن الجميع يمقتونكم , الا الشيطان وحده , فليس أحد غيره أباكم في هذا الارتداد”

“دعهم يخبروننا من أي معلم أو من أي تقليد جاءوا بهذه المفاهيم عن المخلص؟”

“من أي نوع من الأساقفة تعلموا أو من هو القديس الذي علمهم؟”

“لأنه (مجمع نيقية) كتب – ليس عقائدكم – بل تلك العقائد التي سلمها إلينا من البداية هؤلاء الذين كانوا شهود عيان و خداماً للكلمة. لأن الإيمان الذي أعترف به المجمع كتابةً هو إيمان الكنيسة الجامعة”

جدير بالذكر ان لاهوت السيد المسيح واضح كل الوضوح فى الكتاب المقدس. و لم يكن موضوع هذا البحث الإستشهاد بآيات الكتاب المقدس التي تدل على لاهوت السيد المسيح , و إنما تأكيد أن هذا الإيمان كان واضحا عند آباء ما قبل نيقية الذين قاموا بدورهم بالحفاظ على هذا الإيمان إلى أن تمت صياغته في قانون إيمان مجمع نيقية.

أشهر مصادر أقوال الآباء

1- باللغات الأصلية:

أشهر المصادر باللغات الأصلية و أكثرها تكاملا هي المجموعة التى قام بتجميعها و نشرها الكاهن الفرنسي جاك بول مينى Jacques Paul Migne و الذي عاش من سنة 1800 م الى سنة 1875 م. و تقع هذه المجموعة في قسمين :

1- الكتابات اليونانية :

و تُعرف بإسم Patrologia Greek و عدد مجلداتها 161 مجلدا كبيرا مع ملاحظة أن كل كتابات آباء الإسكندرية و الكتابات الرهبانية تقع في هذا القسم حيثن أنهم كتبوا باللغة اليونانية

2- الكتابات اللاتينية

و تُعرف بإسم Patrologia Latina و عدد مجلداتها 221 مجلدا كبيرا

2- باللغة الإنجليزية:

أشهر المصادر باللغة الإنجليزية هى مجموعة آباء ما قبل نيقية , و آباء نيقية و ما بعد نيقية , و قد صدرت فى إدنبرة بأسكتلندا, و تقع هذه المجموعة فى 38 مُجلدا مُقسمة الى ثلاثة أقسام :

– 1- قسم آباء ما قبل نيقية (Ante-Nicene Fathers ANF) و عدد مجلداته 10 مجلدات. و من هذا القسم استقينا أقوال الآباء الواردة في هذا الكتاب.

– 2- قسم آباء نيقية و ما بعد نيقية

المجموعة الأولى : Nicene & Post Nicene Fathers (NPNF) Series I و يحتوي على 14 مجلداً هي كتابات القديس اغسطينوس (8 مجلدات) و القديس يوحنا ذهبي الفم (6 مجلدات).

– 3- قسم آباء نيقية و ما بعد نيقية

المجموعة الثانية: Nicene & Post Nicene Fathers (NPNF)Series II و يحتوي على 14 مجلداً لباقى الآباء.

و قد كان مرجعنا الرئيسي الذي أعتمدنا عليه في إعداد هذا الكتاب هو :“قاموس المُعتقدات المسيحية الأولى” Dictionary Of Early Christian Beliefs David W , Bercot 1998 Hendrickson Publishers

ربنا و آلهنا و مخلصنا يسوع المسيح يُبارك هذه الكلمات لمجد اسمه القدوس مع أبيه الصالح و الروح القدس , بصلاوات أبينا الحبيب صاحب الغبطة و القداسة البابا شنودة الثالث , آمين.

أسرة القديس ديديموس الضرير

للدراسات الكنسية

لاهوت المسيح عند آباء ما قبل نيقية

في حديثنا عن لاهوت السيد المسيح من خلال أقوال آباء ما قبل نيقية , سوف نتبع نفس خط و ترتيب قانون إيمان نيقية فى صياغته لإيمان الكنيسة فيما يخص لاهوت السيد المسيح , من حيث حديثه أولا عن الإبن كأقنوم مُتمايز عن الآب و لكن مولود منه قبل كل الدهور و مساو له في الجوهر. ثم الحديث عن الإبن في تجسده و عمله الخلاصي من أجلنا. و ذلك للتأكيد على أن ما نص عليه الآباء الـ 318 المجتمعون بنيقية مع القديس اثناسيوس – و قد كان شماسا أثناء إنعقاد المجمع – ما هو إلا تعبير صادق و آمين عن الإيمان المُسلم لهم بواسطة الكنيسة مُمثلة في الآباء السابقين لهم من خلال التقليد الرسولي الكنسي.

لهذا سنستعرض أقوال آباء ما قبل نيقية تحت عنوانين رئيسين :

أولا: ولادة الإبن

ثانيا: لاهوت السيد المسيح الإبن المتجسد

ثم بعد ذلك سنستعرض جدولاً يقدم لنا مقارنة بين قانون إيمان مجمع نيقية و قوانين الإيمان السابقة له , و التى كانت تُستخدم فى عصر ما قبل نيقية (100 – 300 م) و ذلك لكى نُلاحظ معاً مقدار التشابه و التطابق – فى بعض الأحيان – بين هذه القوانين بعضها مع بعض. مما سيجعلنا نتأكد أن قانون الايمان النيقاوى نفسه لم يأت من فراغ , بل كان يستند على ما قبله من قوانين.

الفصل الأول

ولادة الإبن الإزلية من الآب

نص قانون إيمان نيقية على أننا نؤمن برب واحد يسوع المسيح , واصفا إياه و معبرا عنه بالاوصاف الآتية :

1- إبن الله الوحيد , المولود من الآب :

إستخدم الكتاب المقدس كلمة “الآب” للتعبير عن الأقنوم الأول فى الثالوث , و كلمة “الإبن” للتعبير عن الأقنوم الثانى , كما إستخدم كلمة “ولادة” للتعبير عن العلاقة بين الآب و الإبن. و هذه التعبيرات لا يُقصد بها إطلاقا الأبوة و البنوة و الولادة بحسب المفاهيم البشرية المادية , و لكن الكتاب المقدس قد إستخدمها لأنها أقرب الكلمات فى اللغة البشرية للتعبير عن علاقة الإبن بالآب. فأقرب كلمة تعبر عن الأقنوم الأول من حيث كونه المصدر و الينبوع للأقنومين الآخرين هي كلمة “الآب”. و أقرب كلمة تعبر عن الأقنوم الثاني كأقنوم يُولد و يخرج من الآب هي كلمة “الإبن”.

فالآب هو المصدر و الينبوع , و الإبن يُولد منه من نفس طبيعته و جوهره مساويا له في الأزلية و الأبدية و لكن دون أن ينفصل عنه , فهو يُولد منه و فيه , تماما كما يولد الفكر من العقل. فالفكر لا يترك العقل بل يظل ساكنا فيه مهما أُعلن أو انتشر بين آخرين.

و ولادة الإبن – أي خروجه من الآب – هي ولادة فريدة من نوعها فلا نستطيع أن نصفها لأن المخلوق لا يقدر أن يصف الخالق , و المُدرك لا يستطيع أن يتحدث عن غير المُدرك , لذلك يُطلق على الإبن تعبير “مونوجينيس” أي الإبن “الوحيد الجنس” كما ورد في الكتاب المقدس :“الذي يؤمن به لا يُدان و الذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن بأسم ابن الله الوحيد” (يو 3 : 18). فهو الوحيد الخارج من الآب بهذه الكيفية الإلهية غير المُدركة , كما أنه هو الوحيد المولود من الآب بحسب الطبيعة أي من نفس طبيعة الآب , أما ولادتنا نحن المؤمنين من الآب فهي بالتبني بحسب محبة الله و ليست بالطبيعة.

“الإبن يُعلن عن الآب الذي ولده” القديس ايريناؤس

“ليس الإبن غير مولود , لأن الآب وحده هو غير المولود. و الوجود غير المُدرك للإبن الوحيد الجنس المولود من الآب يفوق إدراك البشيرين (الأربعة) , بل و ربما أيضا الملائكة … فمعرفة هذا السر الإلهى هي للآب فقط , إذ يقول المسيح (لا أحد يعرف الإبن الا الآب).” البابا السكندروس

“فيما يتعلق بالمسيح , نحن نؤمن كما تؤمن الكنيسة الرسولية هكذا : بآب واحد غير مولود , له وحده دون آخر علة وجوده , غير متغير و غير قابل للتغير … و برب واحد يسوع المسيح , ابن الله الوحيد المولود من الآب. ليس هو مولوداً مما لم يكن بل من الآب. فولادته ليست بطريقة مادية و لم تكن لا بالقطع ولا بالإنقسام (كما ظن سابليوس و فالنتينوس) , و لكن بطريقة غير مُدركة لا يُنطق بها بحسب كلمات أشعياء النبي “جيله من يخبر به” (اش 53 : 8) . حيث أن وجوده لا يمكن أن تتفحصه آية طبيعة مخلوقة , تماماً كالآب الذي لا يستطيع أحد أن يتفحصه. فطبيعة الكائنات العاقلة لا تستطيع إدراك حقيقة الولادة الإلهية للإبن من الآب.” البابا السكندروس

الإبن كما ذكرنا مولود بطريقة غير مادية و غير حسية , فلذلك يقول البابا ألسكندروس أن ولادته ليست “بالقطع”. فهو ببساطة ليس جزءً من الآب قد تم اقتطاعه كما تُقطع قطعة صخر من أي جبل , و لا هي تمت “بالإنقسام” كما تنقسم مثلا الخلايا في جسم الإنسان. فولادة الابن كما قال القديس الكسندروس “غير مدركة”.

“لذلك أي من يسألنا عن كيفية ولادة الإبن من الآب , نجيبه أنه لا أحد يدرك هذا الخروج أو هذه الولادة أو هذه الدعوة أو هذه الرؤيا أو أي تسمية أخرى يمكن أن نصف بها هذه الولادة. لأنها في الحقيقة بالإجمال غير قابلة للوصف.” القديس ايريناؤس

“نحن نؤكد أن كلمة الله قد وُلد بطريقة خاصة تختلف تماما عن الولادة العادية” يوستينوس الشهيد

“لنا إله واحد , و الكلمة , أي الإبن , مولود منه. و نحن نعي أن الإبن غير منفصل عن الآب.” العلامة اثيناغوراس

2- قبل كل الدهور

أكد آباء ما قبل نيقية ما جاء لاحقا فى مجمع نيقية من أن ولادة الإبن من الآب هي ولادة أزلية قبل كل الدهور كما يقول الكتاب المقدس : “و مخارجه منذ القديم , منذ أيام الأزل” (مى 5 : 2). إذن لا يوجد فارق زمني بين وجود الآب و وجود الإبن , فالأمر ليس كما قال الأريوسيون :”لقد كان هناك وقت لم يكن فيه الإبن موجودا”.

و لو كانت هناك أي فترة من الزمن لم يكن فيها الإبن موجودا , لما أمكن أن يكون الآب هو الآب , إذ أن أي كائن يُدعى آبا فقط عندما يُولد له إبن. و إذا لم يكن الابن موجوداً منذ الأزل , يكون الآب قد تغير بولادة الإبن بينما الكتاب المقدس يشهد أنه “ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” (يع 1 : 17).

و بما أن الإبن هو عقل الآب الناطق او نطقه العاقل , فكيف نتصور وجود زمن كان الآب بدون حكمته و بدون عقله؟! حاشا أن يكون الأمر كذلك.

و ولادة الإبن من الآب – كما قلنا – هي قبل كل الدهور و فوق الزمن , فهي إذن ولادة دائمة. أي أنها لم تحدث في فترة من الزمن ثم انتهت بعد ذلك. كما تلد الأم إبنها مثلاً. فولادة الإبن من الآب هي ولادة دائمة مثل ولادة الفكر من العقل , فهو يُولد على الدوام وبلا إنقطاع. و مثل ولادة الضوء من الشمس , فهو أيضا يُولد على الدوام و بلا إنقطاع , كما سنرى فيما بعد عند حديثنا “نور من نور”.

“الآب يلد الإبن غير المخلوق و يأتي بالروح القدس. ليس كما لو كان الإبن لم يكن له وجود سابق (ثم ولده الآب) , لكن لأن الآب هو الأصل و المصدر للإبن و للروح القدس.” العلامة اوريجانيوس

أقنوم الآب هو الأصل و الينبوع فى الثالوث , يُولد منه الإبن قبل كل الدهور , و ينبثق منه الروح القدس قبل كل الدهور. فخروج الإبن من الآب نستخدم معه كلمة “ولادة” , و خروج الروح القدس من الآب نستخدم معه كلمة “إنبثاق” كما يُعلمنا الكتاب المقدس (يو 15 : 26). و لذلك – كما أوضحنا سابقا – فإننا نُلقب الإبن بتعبير “مونوجينيس” أي الإبن “الوحيد الجنس”. ليس لأنه الوحيد الذى يخرج من الآب قبل كل الدهور , و كأن الروح القدس ليس كذلك .. حاشا , بل لأنه هو الوحيد “المولود” بينما الروح القدس “منبثق”.

“يُقصد بلقب “الآب” أن “الإبن” أيضا كائن على الدوام بدون بداية” القديس كليمندس السكندري

“ليعلم من يقول بأن “كلمة الله” أو “حكمة الله” ليس أزليا , إنه مذنب فى حق الآب نفسه , إذ هو ينكر إنه كان “الآب” على الدوام , أو أنه كان يلد الكلمة على الدوام , أو انه كان يملك الحكمة فى كل الحقب السابقة سواء كانت هذه الحقب أزمنة أو دهور” العلامة اوريجانيوس

“إذا كان الإبن هو الكلمة و الحكمة و العقل بالنسبة لله , فكيف يمكن ان يكون هناك زمن لم يكن فيه موجوداً؟ هذا يستوى مع قولهم بأن هناك وقت كان الله فيه بدون حكمة و بدون عقل” البابا الكسندروس

3- نور من نور

الإبن مولود من الآب يحمل نفس طبيعته و جوهره , لذلك استخدم قانون الإيمان هذا التعبير “نور من نور”. تماما كما ذكر معلمنا بولس الرسول عن الإبن “الذي هو بهاء (شعاع) مجده , و رسم جوهره” (عب 1 : 3).

كما أن ولادة الإبن من الآب لا يُصاحبها إنفصال للإبن عن الآب ولا تغير فى الآب. فهي ليست كولادة الطفل من أمه , فإن الطفل يخرج من رحم الأم و ينفصل عنها بكيان خاص به. كما يتغير شكل الأم و ينقص وزنها بمقدار وزن الطفل المولود. أي ان عملية الولادة يصاحبها تغيير فى الأم الوالدة , و انفصال عن الأم بكيان خاص.

و قد أستخدم آباء ما قبل نيقية تشبيه ولادة شعاع النور من مصدر النور أو من الشمس , و تشبيه خروج الماء من الينبوع , و أيضا تشبيه ولادة النار من النار.

و لنا هنا ملاحظة هامة هي أنه و إن كانت التشبيهات تقرب لنا الحقائق الخاصة بالله , إلا أنها لا يمكن أن تعبر تعبيرا كاملا عن هذه الحقائق , كما أنه يمكن أن يُستخدم أكثر من تشبيه واحد لنفس الحقيقة على أن يقرب كل تشبيه جانب واحد فقط من جوانب هذه الحقيقة و إن اختلف عنها في جوانب أخرى.

فولادة الإبن من الآب دون ان ينفصل عنه , رغم تمايزهما عن بعضهما البعض كأقنومين , تشبه ولادة شعاع النور من قرص الشمس دون أن ينفصل عنه , رغم أن شعاع الشمس ليس هو قرص الشمس نفسه.

كذلك فإن هذه الولادة لا يُصاحبها تغير أو نقصان فى الآب , فعند إشعال شعلة نار من شعلة أخرى , لا يحدث تغير للأولى رغم أن الشعلة الجديدة تكون مثل الأولى تماما. و إن كان هذا التشبيه يختلف عن ولادة الإبن من الآب من حيث أن الشعلة الجديدة تنفصل تماماً عن الشعلة الأولى التي أشعلت منها.

“قيل عن المخلص أنه نور , و في رسالة القديس يوحنا الأولى نجد عبارة “الله نور” (1 يو 1 : 5). فإذا كان الأمر كذلك , سنجد فيه برهانا على أن الإبن لا يختلف عن الآب في الجوهر” العلامة اوريجانيوس

“الحياة وُلدت من الحياة بنفس الطريقة التي ينبع بها النهر من الينبوع و يُشعل بها النور من النور الذي لا ينطفىء” القديس ديونسيوس السكندرى

“المسيحيون يُسمون المسيح “الكلمة” لأنه يحمل بشارة الآب للبشر. و لكنهم يُصرون على أن هذه القوة (الكلمة) غير منقسم و غير منفصل عن الآب , كما أن شعاع الشمس الذي يصل إلى الأرض هو غير منقسم و غير منفصل عن الشمس في السماء. و هذه القوة أي “الله الكلمة” , مولود من الآب … ليس بالإنقسام كما لو كان جوهر الآب قد انقسم , فكل الأشياء إذا انقسمت أو تجزأت لا تكون كما كانت قبل الانقسام أو التجزئة. و على سبيل المثال , النيران التي تُشعل من مصدر ناري نجدها متمايزة عن النار الأصلية, و مع ذلك فالنار التي نشعل منها نيران كثيرة لا تنقص بل تبقى كما هي” القديس يوستينوس الشهيد

“لقد ظهر آخر الى جانب الآب. و لكن عندما أقول “آخر” لا أعني أن هناك إلهين , و لكن أعني فقط أنه مثل النور من النور , و الماء من الينبوع , و الشعاع من الشمس” القديس هيبوليتوس الرومانى

4- إله حق من إله حق

بنفس المفهوم السابق , أكد آباء ما قبل نيقية أن الإبن هو إله حق من إله حق , كما يقول الرسول بولس “و منهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركاً الى الأبد آمين” (روم 9 : 5). إذ أن ولادة الإبن من الآب أعطت الإبن كل ملء اللاهوت دون أن يُنقص هذا من لاهوت الآب في شىء , و أيضا دون أن يكون هناك إلهين اذ لهما نفس الجوهر الإلهي.

“الإبن هو سيد القوات الملائكية , إله من إله , و إبن من الآب” القديس ايريناؤس

“في البدء كان الكلمة عند الله الآب. لم يكن الآب هو الذي عند الكلمة , فعلى الرغم من كون الكلمة هو الله , إلا أنه كان عند الله, إذ هو إله من إله” العلامة ترتيليان

“نحن نؤمن برب واحد يسوع المسيح , الإبن الوحيد المولود من الله (الآب). و هو ليس مولوداً مما لم يكن , بل مولود من الآب” البابا ألكسندروس

“أخيرا , يُمكن لأي أحد أن يقرأ في الكلمات الإلهية أن الإبن مولود , و لكن لا يمكن لأحد أن يجد (فى الكلمات الإلهية) أن الإبن مخلوق. لأجل ذلك , فإن الذين يتجاسرون و يعتبرون أن الولادة الإلهية غير الموصوفة التي للإبن مجرد خلقة , هم مخطئون في تفكيرهم” القديس ديونسيوس الرومانى

5- مساو للآب فى الجوهر

كان هذا التعبير الذي استخدمه القديس اثناسيوس في مجمع نيقية , و الذى صار جزءاً من قانون إيماننا , هو الفاصل الحاسم فى الرد على آريوس و هرطقته.

جاء هذا التعبير فى اللغة اليونانية “هوموأُوسيون” ÐmooÚsioj بمعنى “من نفس الجوهر” الآب. و قد رفض أريوس هذا التعبير و أقترح بديل له “هومى اوسيون” ÐmoioÚsioj بمعنى “مُشابه للآب في الجوهر” و ليس مساو للآب و من نفس جوهره , و هو ما رفضه القديس اثناسيوس و الآباء المجتمعون بنيقية و أصروا على التعبير الأول.

و عندما عارض الآريوسيون هذا التعبير بدعون أنه غير كتابي , أى لم يرد ذكره فى الكتاب المقدس , على الرغم من أن مُعظم تعبيرات الأريوسيين أنفسهم كانت غير كتابية , كان رد القديس اثناسيوس :”حتى إذا لم تكن التعبيرات موجودة بكلمات كثيرة جدا في الكتاب المقدس , مع ذلك فهي تتضمن و تحوى معنى الأسفار المقدسة , و إذ تُعبر عنه , تُقدمه إلى هؤلاء الذين لهم مسامع سليمة غير فاسدة للعقيدة النقية”

و أعلن القديس اثناسيوس أيضاً أن هذا التعبير له أصول آبائية عند الآباء السابقين لمجمع نيقية :”إن اساقفة نيقية لم يخترعوا هذه العبارات من انفسهم بل كانت لهم شهادات من الآباء لما سجلوها”

بهذا يكون إيماننا بالله ان له جوهر واحد مُثلث الأقانيم. و من هنا تشترك الاقانيم الثلاثة في نفس صفات الجوهر الإلهي الواحد , و هي ما نسميه الصفات الجوهرية او الكمالات الإلهية مثل : الأزلية , الأبدية , الخلق , الحكمة المُطلقة , القدرة المُطلقة , الحياة … إلخ. هذا مع وجود صفة يتمايز بها كل أقنوم عن الأقنومين الآخرين , و هي ما نسميه الصفة الأقنومية , فالآب وحده هو المصدر و الأصل في الثالوث و هو غير مولود , و الإبن وحده هو المولود من الآب قبل كل الدهور , و الروح القدس وحده هو المنبثق من الآب أزليا.

و قد أكد آباء ما قبل نيقية مساواة الإبن للآب فى الجوهر كما سيلي من بعض أقوالهم :

“لقد تعلمنا أن الإبن خرج من الله الآب , و بخروجه هذا قد وُلد من الآب. إذن فهو إبن الله , و يُدعى الله لأجل وحدته مع الآب فى الجوهر … فحتى شعاع الشمس عندما يخرج منها يظل متصلا بها. و تظل الشمس في الشعاع لأنه منها. فلا يوجد إذن تقسيم ى الجوهر , فالشعاع هو مجرد امتداد للشمس … هكذا المسيح هو روح من روح , و إله من إله. مثل شمعة مضيئة تُوقد من شمعة مضيئة , فيظل لهب الشمعة الأصلية بكامله دون أن يتأثر , على الرغم من أنه قد يُوقد منه أي عدد من الشمعات الأخرى التي لها لهب بنفس الصفات. كذلك أيضاً الذي خرج من الله (الآب) هو بآن واحد الله و إبن الله , و الإثنان هم واحد.” العلامة ترتيليان

في هذا القول يذكر العلامة ترتيليان أن المسيح هو “روح من روح” , فنحن نعرف أن “الله روح” (يو 4 : 24) أي أن طبيعته روحية غير مادية , و المسيح بحسب لاهوته هو إله حق من إله حق , مساو للآب في الجوهر , أي أن طبيعته من نفس طبيعة الآب. إذن فطبيعة الإبن روحية , كما أن طبيعة الآب روحية.

كما يذكر العلامة ترتيليان أن المسيح هو الله و إبن الله بآن واحد , فالمسيح هو الله من حيث طبيعته الإلهية و جوهره الإلهي واحد مع الآب , بينما هو ابن الله من حيث أنه الأقنوم المولود من الآب قبل كل الدهور. تماماً كأن نقول على شخص ما أنه “مصري ابن مصري”, فهو “مصري” لأنه يحمل كل الصفات و الخصائص الخاصة بالمصريين , كأي شخص آخر و حتى كأبيه. و هو “إبن مصري” لأن أباه الذي ولده هو أيضا مصري. هكذا فأقنوم الكلمة هو الله و إبن الله.

“جوهر الإبن ليس جوهرا غريبا من صُنع أحد. ولا هو وُجد من العدم. بل لقد وُلد من جوهر الآب مثل الشعاع من الشمس , أو مثل مجرى الماء (التيار) من الينبوع. فالشعاع ليس هو الشمس نفسها , كذلك المجرى ليس هو الماء نفسه , و لكن كليهما لا يختلفان عن المصدر (من حيث الجوهر). فالإبن هو إنبعاث أو فيض من جوهر الآب , و مع هذا يظل جوهر الآب دون تقسيم” العلامة ثيؤغنسطس السكندرى

و الجوهر هنا يُقصد به الوجود الحقيقي أو الكيان الواقعي.

“الإبن مشترك مع الآب في الجوهر لأن ما ينبثق (او يُولد) من الجوهر هو مساو له و واحد معه “هومواوسيوس” بكل تأكيد.” العلامة اوريجانيوس

“الإبن لا يختلف عن الآب في الجوهر“ العلامة اوريجانيوس

“إن الكلمة نفسه – الذى هو إبن الله – واحد مع الآب بمقتضى مساواته له في الجوهر. و هو أبدي و غير مخلوق.” القديس كليمندس السكندرى

“أستطيع أن أقول بكل جسارة أن الكلمة له نفس جوهر الآب الخالق” العلامة ترتيليان

6- الذي به كان كل شىء

أكد آباء ما قبل نيقية أن الإبن المولود من الآب و المساوي له في الجوهر هو كلمة الله و حكمة الله الذي به عمل العالمين (عب 1 : 2). أو كما يقول القديس يوحنا الرسول : “كل شىء به كان و بغيره لم يكن شىء مما كان” (يو 1 : 3).

“خالق العالم هو بالحقيقة كلمة الله. هذا هو ربنا” القديس ايريناؤس

“الإبن الكلمة هو الله و هو الخالق. كما قيل (كل شىء به كان و بغيره لم يكن شىء مما كان) (يو 1 : 3)” القديس كليمندس السكندرى

“الله الكلمة , حتى قبل خلق الإنسان , كان هو صانع الملائكة.” تاتيان السورى

“لقد خُلق الكون و وُضع له تدبير بواسطة كلمة الله … إذ نؤمن به كإبن الله” العلامة اثيناغوراس

الحديث السابق إختص بالإبن الكلمة و ولادته الأزلية من الآب و مساواته له في الجوهر. و قد استعرضنا أقوال آباء ما قبل نيقية التى تؤكد رسوخ هذا الإيمان منذ فجر المسيحية و حتى قبل مجمع نيقية , و إن كان في مجمع نيقية قد تمت صياغة الإيمان بشكل مُحدد. و ننتقل الآن لإيمان الكنيسة من خلال أقوال آباء ما قبل نيقية , فيما يختص بالإبن الكلمة فى تجسده من أجل خلاصنا.

الفصل الثاني

لاهوت المسيح الإبن المتجسد

هكذا آمنت الكنيسة منذ تأسيسها أن إبن الله الأزلي المساوي للآب في الجوهر هو هو نفسه تجسد فى ملء الزمان من الروح القدس و من العذراء القديسة مريم , و أنه تأنس كإنسان كامل و عاش على الأرض , و تألم و قُبر و قام و صعد إلى السماوات.

فلقد كان المسيح هو الله…

1- في تجسده و ميلاده

“المسيح هو الله لأن إسم “عمانوئيل” يدل على ذلك” القديس ايريناؤس

فلقب “عمانوئيل” الذي أطلقه الكتاب المقدس على السيد المسيح يعني “الله معنا”. لذلك فإسم عمانوئيل نفسه يدل على لاهوت المسيح الذي بتجسده قد صار معنا نحن البشر.

“مبارك الآتي بإسم الرب , أى مبارك الإبن الآتي بإسم الرب. أما عن أسماء الآب التي يعلمنا إياها الكتاب المقدس : الله الكلي القدرة , العلي , رب الكل , ملك إسرائيل , الكائن. و نحن نقول أن هذه الأسماء تخص الإبن أيضا. و نقول أن الإبن قد جاء تحت هذه المُسميات و تصرف بناءًا عليها و هكذا أعلنها للناس فى ذاته. إذ يقول : كل ما للآب فهو لي. فلماذا إذن لا تكون أسماء الآب أيضا للإبن؟” العلامة ترتيليان

“لأنه من يجهل كتب ارينيؤس و ميليتو و الباقين الذين قالوا عن المسيح أنه إله و إنسان؟ أيضا كل المزامير , و ترانيم الأخوة – التي كُتبت منذ البداية بوساطة الأمناء – تُعلن أن المسيح هو كلمة الله ناسبة له اللاهوت” يوسابيوس القيصرى

2- في تعاليمه و أقواله

“المسيح لم يستخدم الجملة المعتادة التي استخدمها الأنبياء – هكذا يقول الرب – , لأنه هو نفسه الله الذي تكلم بسلطانه و يبدأ كلامه بقول : الحق الحق أقول لكم” العلامة ترتيليان

“إن كان أحد يتسائل عما إذا كان كل ما هو معروف للآب هو معروف للإبن الفادي أيضا , و إن كان أحد يظن أن هناك أشياء يعلمها الآب ولا يعلمها الإبن مُتخيلا أنه بهذا يُعظم الآب , فإننا نُذكره أن الإبن هو الفادي لكون هو الحق. و بالتالي إن كان هو الحق الكامل , فلا توجد إذا حقيقة لا يعلمها هو.” العلامة اوريجانيوس

3- في آلامه و موته

“كيف يتألم الإبن دون أن يتألم الآب معه؟ (الاجابة هى أن) الآب منفصل عن الإبن (بحسب التجسد) , على الرغم من إنه غير مُنفصل عنه من حيث اللاهوت. على سبيل المثال , النهر ينبع من ينبوع من نفس طبيعته , و هو لا ينفصل عنه. و مع ذلك , فإذا تلطخ النهر بالطين و الطمى , فإن الينبوع لا يتأثر ولا يصل إليه الطين أو الطمى. فمياه الينبوع هي التي تتأثر اثناء سريانها في مجرى النهر , أما الينبوع فلا يتأثر على الإطلاق.” العلامة ترتيليان

يقول العلامة ترتيليان أن :”الآب منفصل عن الإبن بحسب التجسد , على الرغم من أنه غير منفصل عنه من حيث اللاهوت”. فالإبن منفصل عن الآب من حيث التجسد. و ذلك لأننا لا نستطيع أن نقول أن الآب قد تجسد , و إن كنا نستطيع أن نقول أن الآب مخلص لإشتراكه في الخلاص ببذله لإبنه الوحيد. أما من حيث الجوهر الإلهي فالآب و الإبن لا ينفصلان على الإطلاق حتى مع تجسد الإبن. تماما مثلما يوضح مثل الينبوع و النهر السابق ذكره.

“إن جسد المسيح الذى رقد فى القبر لم يكن خاليا من اللاهوت. بل بالأحرى , بينما كان بنفسه البشرية في الجحيم , كان فى وجود جوهري مع الآب. فهو بحسب لاهوته كان في الجسد الذي في القبر وفي نفس الوقت كان بالنفس البشرية في الجحيم. لأن الإبن غير محدود كما أن الآب غير محدود و هو يحوي كل الأشياء في ذاته.” القديس هيبوليتوس الرومانى

“لقد رأت الخليقة كلها كيف أن الخالق قد أُدين لأجل الإنسان , غير المرئي رأوه , غير المحدود قد انحصر في جسد , غير المتألم تألم , غير المائت مات , و السماوي وُضع في القبر.” القديس ميليتو أسقف ساردس

يقول الأسقف ميليتو أن السيد المسيح “قد إنحصر في الجسد” , فليس المقصود بهذه الكلمة أنه بالتجسد فقد عدم محدوديته بل المقصود أنه مع كونه غير محدود فقد ظهر في الجسد المحدود.

4- في عمله الخلاص

“من الواضح انه (المسيح) هو نفسه كلمة الله الذي تأنس , و أخذ سلطان مغفرة الخطايا. لقد كان إنساناً و كان إلهاً بحيث أنه تألم من أجلنا كإنسان , كما أشفق علينا كإله.” القديس ايريناؤس

“نحن الذين نؤمن أن المسيح قد عاش على الأرض و أخذ الطبيعة الإنسانية لأجل خلاص الإنسان , يُعد تفكيرنا بعيداً كل البُعد عن أولئك الذين يرفضون أن يؤمنوا بأن الله يهتم بكل شىء. إذ أن الإيمان بأن الله قد مات و مع ذلك فهو حي إلى الأبد هو جزء من أساسى من إيماننا كمسيحيين.” العلامة ترتيليان

في هذا القول يؤكد العلامة ترتيليان أن الذين يرفضون التجسد و الصليب ظانين أن هذا لا يليق بعظمة الله , هم بعيدون كل البعد عن الفهم و الإيمان الصحيح. فلولا التجسد و الصليب ما كان لنا هذا الخلاص الذي أتمه ربنا يسوع المسيح من أجل محبته لنا و إهتمامه بنا.

الفصل الثالث

قوانين إيمان ما قبل نيقية

كما رأينا فى الأجزاء السابقة فإن الإيمان بلاهوت السيد المسيح كان واضحا جدا في فكر و كتابات آباء ما قبل نيقية , فكل كلمة أو عبارة في قانون إيمان نيقية تحدثت عن لاهوت السيد المسيح كان لها وجود في كتابات هؤلاء الآباء.

و الآن سنرى من خلال الجدول التالي مقارنة بين قانون الإيمان النيقاوي و قوانين الإيمان التي كتبها آباء ما قبل نيقية و التي استخدمتها الكنيسة في ذلك العصر المبكر. لكي نتأكد من أن صيغة قانون إيمان نيقية و ما حوته من اعتراف بلاهوت السيد المسيح كانت مستندة بشكل واضح على صيغ إيمانية أقدم منها بكثير.

ففى العصور المسيحية الاولى كانت توجد صيغ مُبسطة للإيمان المسيحي تُسلم بشكل أساسي للمُقلبين على المعمودية بهدف تعليمهم الإيمان المسيحى السليم. و لكن مع زيادة و انتشار الهرطقات , أصبحت هناك حاجة مُلحة لإستعمال قانون الإيمان فى العبادة الليتروجية في الكنيسة من أجل الدفاع عن الإيمان من ناحية , و تعليمه للشعب من ناحية أخرى. لذلك فما فعله مجمع نيقية هو إعلان صيغة رسمية مُوحدة لقانون الإيمان يشترك الجميع في إستخدامها , مُستندا في ذلك على ما سبقه من صياغات.

و فيما يلى قوانين الإيمان التي سنقوم بعرضها :

– قانون الرسل , روما , القرن الثاني

– ايريناؤس , ليون , 180 م

– ترتيليان , قرطاجنة , 200 م

– كبريانوس , قرطاجنة , 250

– نوفتيان , روما , 250 م

– اوريجانيوس , الإسكندرية , 250 م

– غريغوريوس , قيصرية الجديد , 270 م

– لوقيانوس , أنطاكية , 300 م

– يوسابيوس , قيصرية , 325 م

– مجمع نيقية , نيقية , 325 م

قوانين الإيمان

فهرس الآباء

المذكور كتاباتهم فى هذا الكتاب

أثناسيوس , البابا (297 – 373) :

هو بابا الإسكندرية العشرون. كان شماسا فى الإسكندرية وقت انتشار بدعة اريوس , و شارك مع البابا ألكسندروس في مجمع نيقية المسكوني. أصبح بطريركاً سنة 328 م و كان له دور كبير في دحض البدعة الأريوسية.

أثيناغوراس , العلامة (القرن الثانى) :

أحد الآباء المدافعين. كان فيلسوفا يونانياً ثم اعتنق المسيحية سنة 176 م. نبغ فى المعرفة المسيحية الى أن أصبح رئيسا لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية. و هو أول من قال أن المسيحية ليست ضد الفلسفة اليونانية.

ألكسندروس , البابا (تنيح عام 328) :

بابا الإسكندرية التاسع عشر. كان تلميذا للبابا بطرس خاتم الشهداء , أعاد حرم أريوس بسبب هرطقته. و قد حضر مجمع نيقية هو و تلميذه أثناسيوس.

أوريجانيوس , العلامة (185 – 254) :

كان أحد رؤساء مدرسة الإسكندرية. و قد تتلمذ على يد القديس كليمندس السكندرى ثم تولى إدارة مدرسة الإسكندرية من بعده. نال شهرة واسعة بسبب تفسيراته للكتاب المقدس و مؤلفاته العديدة. و وُجد بعد وفاته بعض الأخطاء في كتاباته.

ايريناؤس , القديس ( 130 – 200) :

كان أسقف ليون فى فرنسا. تتلمذ على يد القديس بوليكاربوس اسقف سميرنا. و قد اشتهر بلقب “ابو التقليد الكنسي” بسبب نقاوة تعاليمه.

تاتيان , السوري ( القرن الثاني) :

أحد الآباء المدافعين. و هو سوري الجنسية , و قد إنجذب للمسيحية عند سماعه لتعاليم القديس يوستينوس الشهيد. عُرف عند رفضه للفلسفة , و فكره المُتشدد في بعض الامور النُسكية.

ترتيليان , العلامة (160 – 230) :

أحد الآباء المدافعين. و يُعتبر أب علم اللاهوت في الكنيسة اللاتينية. وُلد في قرطاجنة بشمال إفريقيا. درس القانون و البلاغة و اشتغل بهما لفترة الى أن اتجه للمسيحية و كرس كل طاقاته لها , و يُقال أنه قد سيم كاهنا. و قد ترك العلامة ترتيليان الكثير من المُؤلفات و الكتب.

ثيؤغناسطس , العلامة (تنيح 282) :

أحد رؤساء مدرسة الإسكندرية. كان كاهناً في الإسكندرية , و عُرف عنه ثقافته المسيحية الواسعة. و قد عُين مديرا لمدرسة الإسكندرية في عهد البابا ديونسيوس الكبير.

ديونسيوس الإسكندري , البابا (تنيح 264) :

بابا الأغسكندرية الرابع عشر. تتلمذ على يد العلامة اوريجانيوس , أصبح مديرا لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية , و رُسم بطريركاً سنة 245 م. كتب ضد تعاليم السابليين و ضد بولس الساموساطى.

ديونسيوس الروماني , القديس (تنيح 268) :

كان أسقفا لمدينة روما , إذ قد سيم عليها بعد استشهاد أسقفها سيكستوس الثانى سنة 260 م . أعاد الترتيب و النظام إلى كنيسة روما بعد فترة اضطهاد الإمبراطور فاليريان , و قد أشتهر بمحبته و إهتمامه بمساعدة المحتاجين حتى و لو من البلاد الآخرى. كانت هناك مراسلات مُتبادلة بينه و بين سميه القديس ديونسيوس الإسكندرى.

كليمندس السكندري , القديس (150 – 215) :

أحد رؤساء مدرسة الإسكندرية. كان وثنيا ثم أعتنق المسيحية و تتلمذ على يد العلامة بنتينوس. سيم كاهنا و تسلم رئاسة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية بعد معلمه بنتينوس. لُقب “أب الفلسفة المسيحية” من كثرة كتاباته و معرفته , و قد كان اوريجانيوس أحد تلاميذه.

لكتانتيوس (250 – 325) :

أحد الآباء المدافعين. وُلد فى شمال افريقيا , تتلمذ على يد ارنوبيوس. كان أستاذا للبلاغة فى مدينة نيقوميديا ثم عُزل بسبب إيمانه بالمسيحية. إشتهر بدفاعاته الكثيرة عن المسيحية.

ميليتو , أسقف ساردس (تنيح 190) :

كان أسقف ساردس في آسيا. لكن للأسف لم يتبق من كتاباته إلا بعض المقتطفات.

هيبوليتوس الروماني , القديس (170 – 236) :

كان كاهناً في روما , غالبا كان تلميذا للقديس ايريناؤس. تقابل مع اوريجانيوس و تعرف عليه. استشهد في إحدى فترات الإضطهاد التي عانى منها المسيحيون في روما.

يوسابيوس القيصري , الأسقف (270 – 340) :

كان اسقف مدينة قيصرية بفلسطين فى وقت حكم الملك قسطنطين. يُعد كتابه عن “تاريخ الكنيسة” هو المصدر الرئيسي لتاريخ الكنيسة من القرن الأول و خلال فترة حكم قسطنطين.

يوستينوس الشهيد (100 – 165) :

أحد الآباء المُدافعين. وُلد في نابلس بأرض فلسطين , و كان وثنيا في بداية حياته , من أشهر دفاعاته “حوار مع تريفو اليهودي”, استشهد في روما سنة 165 م.

لإلهنا كل مجد + كرامة + عزة + سجود إلى الأبد آمين

كتاب : لاهوت المسيح عند آباء ما قبل نيقية – أسرة القديس ديدموس للدرسات الآبائية – الآباء في القرنين الثاني و الثالث