
أبینا إیلیا النبيّ
يعود تاريخ إيليا أو الياس النبيَّ إلى 900 سنة قبل المسيح. إنّه أشهر أنبياء العهد القديم على الإطلاق. ونحن نعرف الكثير عن هذا النبيَّ بفضل ما ورد عنه في الكتاب المقدّس، خصوصاً في سفر الملوك الأول والثاني …
ظهر ايليا وكلّه حماسة. وهمّه إعلان الشهادة لله الأوحد «غرتُ غيرةً لربُّ الجنود». فالله الذي يعبدہ هو «يهوه» لا إله إلاَّه. وبما أنَّ الملكة إيزابيل الملحدة، ساقت زوجها وكافة شعب اسرائيل الى عبادة البعل، فهو مستعدٌ لأن يتحدِّى الملك آحاب وزوجته الملكة إيزابيل وكهنَّة بعل بأجمعهم … وهدفه أنَّ الربَّ وحده هو الإله وليس البعل. فالبعل هو تمثال من حجر لا يتكلِّم ولا يشعر ولا ينظر ولا يستطيع شيئاً، شأنه شأن أيّ حجرٍ آخر.
وايليا أوّل من أطلق صرخة: ((حيّ الربّ الذي أنا واقفٌ أمامه! إنه لا يكون في هذه السنينَ ندىً ولا مطرّ إلاّ بأمري (1ملوك 1/17). فإيليا بغيرته هو كالنار التي نزلت على المحرقة … وهو بصلاته أعاد المطر إلى الأرض بعد إنحباس دام ثلاث سنوات ونصف، وبصلاته الثلاثيّة: إستجبني يا ربّ … إستجبني يا ربَّ … إستجبني يا ربَّ، التي تلاها على المحرقة، وعلى غيوم السماء كي تمطر، لا تزال تلك الصلاة تُلهم مقدميّ الذبيحة في هياكل الكنيسة ومعابدها. فالنار ترمز إلى الروح الذي ينزل على الذبيحة فيلتهمها ويحولها ذبيحة تؤکل، مرضیة عند الله القدیر.
ايليا هو أيضا النبي صانع المعجزات. فقد جعل جرة الدقيق لا تنفد وقارورة الزيت لا تنقص (1ملوك 17/14). وهو الذي أحيا إبن الأرملة الميت؛ لقد أقامه بقوّة صلاته. (1ملوك17/17-24).
وايليا ليس رجل بأس وقوَّة وتحدٍ فحسب، إنما هو رجل صوم وصلاة وتقشّف … إنه من أوائل النساك المتوحِّدين الذي عاش على جبل الکرمل: واقفًا في حضرة الله لیلاً نهاراً حتی نحل جسمه تماماً، فلم یتركه الربّ الإله بل أرسل إلیه ملاکه، فشجعه وأرسل الیه غرابًا يحمل اليه كلّ يوم رغيفًا وكوبًا من الماء.
إنَّه المتصوَّف المتأمل الذي أسّس مدرسة الأنبياء. فتكاثر عدد الذين أحبّوا أن يسيروا على خطاه. فتحوّلت أصقاع جبل الكرمل الموحشة إلى حدائق غناء تعجُّ بالنشاك المصلَّين المتخشّعين. وظهر من بعد ایليا همن يتابع حياته: إلیشاع النبيّ الذي ترك له ایلیا وشاحه. وكان أن ختم ايليا حياته صاعداً إلى السماء لينال إكليل المجد.
لقد كان ايليا صلة الوصل بين العهدين القديم والجديد. فكان عن شمال يسوع في التجلّي على الجبل … ومع موسى عرّاب المسيح وعرَّاب الأنبياء جميعًا والشاهد على ألوهيَّة السيِّد المسيح … كما أنَّ هنَّاك أوجه شبه كثيرة بین إيليا والمسيح وبين إيليا ويوحنا المعمدان. والآن لنرَ بالتفصيل كلَّ نقطة على حدة:
1. معجزة ايليا في صرفت صيدا: معجزة الدقيق والزيت. (1ملوك 17/7)
بعد أيام جفّ النهر لأنه لم ينزل على الأرض مطر … فكان كلام الربُّ قائلا: “قم وامضٍ إلى صرفت صيدا وأقم هنَّاك، فقد أمرتُ هناك امرأة أرملة أن تطعمك”. ففعل كما أمره الربّ. وعند باب المدينة رأى امرأة أرملة تجمع حطبًا، فقال لها: هاتي لي قليلاً من الماء في إناء لأشرب وكسرة خبز لآكل. فقالت: حيَّ الربَّ إلهك، ليس عندي رغيفٌ إلا ملءَ راحةٍ دقيقًا في الجرّة، ويسيراً من الزيت في القارورة.
فقال لها ايليا لا تخافي أعدّي لي أوّلاً ثم لكِ ولإبنكِ فهكذا يقول الربَّ: “إن جرّة الدقيق لا تفرغ، وقارورة الزيت لا تنقص، إلى يوم يرسل الربّ مطراً على وجه الأرض” … فمضت وأعدّت كما قال ايليا … وجرّة الدقيق لم تفرغ وقارورة الزیت لم تنقص حسبما تكلّم إیليا.
2. إحياء ابن الأرملة
وحدث أنَّ ابن المرأة مرض ثم مات … فأخذته إلى ايليا … فصرخ إلى الربَّ قال: («أيها الربَّ إلهي لِتَعُدْ روح الولد إلى جوفه)). فسمع الربَّ لصوت ايليا، وعادت روح الولد إلى جوفه، وعاد إلى الحياة، فسلّمه إلى أمه قائلاً: أنظري! إبنك حيَّ: فقالت المرأة لإيليا: الآن علمت أنّك رجل الله وأن كلام الربَّ في فمك حقَّ (1ملوك17/24).
3 – الإنذار بالنكبة والجفاف العظيم:
استمرَّ الشعب في عبادة (البعل» إله فينيقيا بعدما ترك عبادة الاله الواحد الأحد. وبعل هو إله المطر والإخضرار في نظرهم. فقال لهم إيليا: لماذا لا يفعلُ بعلُ شيئاً، إن كان هو الإله فيُنزل المطر؟
وراح إيليا يهدّدهم للإقلاع عن هذه العبادة الجوفاء. وينذر الشعب وكهنة بعل بنوعِ خاص. ويتوعَّدهم بأنَّ جفاقًا عظیمًا سیحلُّ بهم إن لم يعودوا إلى عبادة الربَّ كما يعبده هو. فقال لهم ايليا: «حيّ الربُّ الذي أنا واقفُ أمامه! إنه لا يكون في هذه السنين ندىً ولا مطرًا إلا بأمري» (ملوك 17/1).
ثم «كان كلام الربّ اليه قائلا: امضٍ من هنا وتوجه صوب نهر كريت شرقي الأردن فتشرب من النهر وقد أمرث الغربان أن تطعمك هنَّاك. فأقام عند النهر والغربان تأتيه بخبز ولحم في الصباح وفي المساء وكان يشرب من النهر)». (ملوك 17/2-6).
4. إيليا وآحاب والتحدي الكبير في محرقة جبل الكرمَل (المحرقة)
وكان أن جاء آحاب للقاء إیلیا فقال له: أأنت معگر صفو اسرائیل: فقال إیلیا لم أعگر أنا صفو اسرائیل، بل أنت وبیت أبیك بترکكم وصايا الربّ وسيركم وراء البعل … والآن أرسل واجمع اليَّ الشعب إلى جبل الكرمل وأنبياء البعل الـ 450 وأنبياء عشتاروت الـ 400 الذين يأكلون على مائدة إیزابيل.
فجمع آحاب بني اسرائيل وجميع أنبياء البعل وعشتاروت على جبل الكرمل … إنه التحدّي الكبير، واليوم العظيم. فقال لهم إيليا: («إلى متى أنتم تعرجون بين الجانبين؟ إن كان الربَّ هو الإله فإتبعوه وإن كان البعل إياه فإتبعوه) !…
وتحداهم إيليا يريد أن يريهم بأم أعينهم، ضلالهم وكفرهم: فقال لهم: لنأت بثورين واحد لكم وواحد لي. فنقطّعه ونجعله على الحطب ولا نضع ناراً … ثم تدعون أنتم البعل، وأنا أدعو باسم الربّ. فالإله الذي يجيب بنار فهو ((الله)). فقبل الشعب والكهنة الشرط. فقال لهم إيليا: إفعلوا أنتم أولاً لأنكم كثيرون وبدأوا يصرخون من الصباح حتى الظهر: أيها البعل إستجب لنا: فلا من يجيب. وأخذوا يرقصون حول المذبح. وعند الظهر سخر منهم إيليا قائلاً: إصرخوا بصوت أعلى، فربما إلهكم في شغل أو سفر أو لعله نائم فيستيقظ … فصرخوا بصوت أعلى ثم أعلى وخدشوا أجسامهم بالسيوف والرماح حتى سالت دماؤهم … فلا من سميع ولا من مجيب.
فقال إيليا للشعب إقتربوا الآن مني … فبنى المذبح وقطَّع الثور وجعله على الحطب وقال: إملأوا أربع جرار ماء وصبّوا على المحرقة
والحطب فشعلوا ثم قال: ثنوا. ثم ثلثوا. فجری الماء حول المذبح … ثم رکع إیلیا وصلی قائلاً:
أيُّها الربَّ إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ليُعلم اليوم أنّك إله في إسرائيل وأنِي أنا عبدك … إستجبني يا رب … ليعلم الشعب أنَّك أنت الإله الحق. عندئذٍ هبطت نار من السماء وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب … فلما رأى ذلك الشعب، ركعوا وقالوا: الربّ هو الإله، الربّ هو الإله …
غير أنّ كهنة البعل لم يؤمنوا وحاولوا الهرب فقال إيليا للشعب: إنقضَّوا على أنبياء البعل ولا يفلت منهم أحد. فقبضوا عليهم وذبحوهم جمیعا.
5- إنتهاء الجفاف (1ملوك18/41-46)
41 وقالَ إِيليَّا لأحاب: “إِصعدْ كلْ وآشرَبْ، فهُوذا صَوتُ دَوِيٍّ مطَر”. 42 فصعِدَ أحاب لِيَأكُلَ وَيشرَب. وصَعِدَ إِيليًّا إلى رَأس الكرمل وانحَنى إلى الأَّرضَ وجَعَلَ وَجهَه بَينَ زُكبَتَيه. 43 وقالَ لِخادِمِه: “إِصعدْ وتَطلع نَحوّ البَحر”. فصَعِدَ وتَطلعَ وقال: “ما مِن شيّء”. فقالَ لَه: “أرجع على سبعِ مرَّات”. 44 فلّهَّا كان في الشّابِعةِ قال: “ها غيمًّ صَغير، قَدر راحةِ رَجُل، طالعً مِنَ البَحْر”. فقالَ لَه: “إِصعَدْ وقُلْ لأحابُ: “شدّ وانزِلْ
لِئلا يمنعكَ المطر”. 45وفي أَثناءِ ذلك آسودَّتِ السَّماءُ بِالغيوم وهبتِ الرَّياح وجاءَ مطَرَّ عظِيم. فرَكِب أحاث وسار إلى پِزرَعيل 46وكانت يَدُّ الرَّبِّ مع إِيليًّا، فشَدٌّ حَقوَيه وجَرى أمام أحابُ حتَّى الوصولِ إلى يزرّعيل.
عندئذٍ توعَدت إیزابيل بقتل إیلیا لأنه قتل أنبياء البعل. فهرب إیلیا إلی الجنوب إلی بئر سبع وطلب إلی الله أن یأخذ حیاته. غیر أن الله أرسل ملاكه ليشجّعه ويعطيه طعامًا وماءً. فأكل وشرب ثم سافر بقوّة هذه الأكلة 40 يوما حتى وصل إلى جبل حوريب أي جيل سيناء …
وفي نهاية أیامه، ذهب ايليا إلى الأردن مع إليشاع وضرب إيليا الأردن بردائه فإنشق الماء وسار النبيّان على اليابسة ثم جاءت مركبة ناريّة فحملت إيليا إلى السماء وترك رداءه لإليشاع. هذا ما كتب في سفر الملوك … إختفى ايليا بشكل فجائيَ كما ظهر بشكل فجائيّ.
6- کیف کانت إذن نهایة ایلیا؟
هل يزال النبيَّ الياس حيًا أم إنه قد مات مثله مثل سائر الأنبياء؟
في التقليد الشعبي يقول الناس إن إيليا حيَّ لم يمت! أولاً ليست عقيدة إيمانيّة أن نؤمن أنه مات أو لم يمت. هذه تقاليد وأحاديث ولا يستطيع أحد أن يؤكد أو ينفي على الإطلاق. وإيليا ليس أحسن من يسوع المسيح الذي مات وقبر وقام. وليس أحسن من موسى وحزقيال وأشعيا وإرميا …
فالمسيح وحده حيٌّ وهو جالس عن يمين الآب يشفع فينا جميعًا. وليس ايليا ولا أي واحد من القديسين بمنزلة يسوع المسیح. إيليا النبي مات مثل غيره ونحن ربما نقول إِنه حيَّ نسبة إلى ترداده لهذه العبارة: ((حيَّ الربُّ الذي أنا واقف أمامه )). فالربّ رفع إلیه إیلیا في العاصفة (2 ملوك 2/1) أي علاه. والعاصفة هي حضور الله الدائم والقويّ. وإذا كنا لا نعرف أين دفن، فهذا لا يعني أنه لم يمت! فنحن أيضا لا نعرف أين هو قبر موسى أو أشعيا أو حزقيال! قؤَّة ايليا جعلته مهيوبًا من الشعب … فهو نبيَّ قويّ لا يهاب العظماء، وفي الوقت ذاته نبيّ عاش حياة حميمة مع الله. نبيَّ بطَّاش ونبيَّ زاهد متنسّك. نبيٍّ يجمع في شخصه نقيضين. نبي كالنار وكالعاصفة في الوقت ذاته، كنور الصباح وكالنسمة الخفيفة.
فالمركبة والخيل الناريّة ترمز إلى حضور الله القوي وإلى جبروته وقدرته. لم يصعد ايليا إلى هذه المركبة الناريَّة، إنّما المركبة الناريَّة (أي حضور الله) هي التي فصلت بين ايليا وإليشاع. فأخذ الأول (إيليا) الذي مات، بينما وتُّرك الثاني (إليشاع) حيًا على الأرض إلى أن توفاه الله بعد سنوات.
7-هل سیعود إیلیا؟
ينتهي العهد القديم بسفر ملاخي النبيّ. وينتهي أيضاً سفر ملاخي بمقطع يتحدَّث فيه عن إيليا فيقول: «هاءنذا أرسل إليكم إيليا النبيَّ قبل أن يأتي يوم الربَّ العظيم الرهيب، فيردّ قلوب الآباء إلى البنين وقلوب البنين إلى آبائهم». (ملاخي 3/23-24). ولكنَّ يسوع المسيح يقول لنا في الإنجيل إن إيليا قد عاد بشخص يوحنا المعمدان: ((فإن شئتم أن تفهموا، فيوحنا هو ايليا المنتظر رجوعه)» (متی 11/14). وسأله تلاميذه: لماذا يقول الكتبة إنه يجب أن يأتي إيليا أولاً؟ فأجابهم: إيليا قد أتى ولكنّهم لم يعرفوه بل صنعوا به كلَّ ما أرادوا. ففهم التلاميذ أنه قد كلّمهم عن يوحنا المعمدان. (متى 17/10-13؛ مرقس 9/11).
فإذا كان المسيح قد مات، وقبله موسى، وقبله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومن ثم كافة الأنبياء، فالموت قد عمّ جميع الناس (روما 5/12) والموت سيعم مستقبلاً الجنس البشري بكامله.
مات إيليا في العاصفة والأرجح عاصفة صحراويّة رمليّة … فطمر في الرمل … ونحن نكزمه كأعظم الأنبياء وككبار الأبرار والقدّيسين، وكمُلهم لنساك الجبل الذين تحدّر منه الرهبان “إخوة مريم العذراء سيِّدة جبل الكرمل”.
الأب میشال حدَّاد الکرملي
No Result
View All Result