
عصافير الخامس عشر من آب (عيد رقاد والدة الاله)
في ظهيرة صيفية حارّة من حزيران عام 2019، قرّرتُ أن أذهب لزيارة أمّي. فإذا بي أراها تمسك بصحن صغير فيه قطعتان من الخبز المُبلَّل. كانت تسير بخطى بطيئة قصيرة في باحة بيتنا، ثم وضعت الخبز بيديها المرتجفتين على فرن خارجي. ولكن… ماذا كانت تفعل؟
وفجأة، هبط سربٌ من العصافير من حيث لا نعلم، وبدأوا يلتقطون الفتات المبلّل بفرح. كانت العصافير تغرّد، وتصفّق بأجنحتها الصغيرة، وتقفز هنا وهناك. مشهدٌ بديعٌ بحق. كانت تتنازع على أماكنها، وتدفع بعضها البعض لتجد مكانًا على سطح الفرن، وهي تزقزق في غبطة عارمة. كانت غايةً في السعادة.
قالت أمّي العجوز متأثّرة: «يا للمساكين… منذ سنوات وأنا أطعمها كلّ يوم عند الظهر. فهي أيضًا تشعر بالجوع، ولا تجد الطعام بسهولة. انظرْ كيف تبتهج من أجل قليل من الفتات، واستمعْ كيف تزقزق بفرح، تشكر الله على هذا القليل من الخبز، وتسبّح خالقها…».
وقفت أنظر إليها مبهوتة، إلى أمّي الطيّبة القلب، الرحيمة، التي رقّت حتى للعصافير. أنا نفسي لم يخطر ببالي يومًا أن أطعم العصافير، وبشكل دائم أيضًا. نعم، قد نهتمّ بالكلاب والقطط الشاردة، ونلقي لها بعض الفتات في الشتاء، لكن أمرًا كهذا لم يمرّ يومًا في خاطري. وفكّرتُ مرّة أخرى، وللمرّة الألف، أنّنا نحن أولادها لم نستطع أبدًا أن نبلغ ما بلغته أمّنا من المروءة والكرم…
تابعت العصافير رقصها وغناءها على فرن باحتنا الصغيرة، التي احتضنت حقًا عددا كبيرًا من اللحظات الجميلة والأفراح العائلية. أمّا الآن فقد طارت الطيور بعيدًا عن عشّها، وبنت أعشاشها الخاصة. لكن الأغنية لم تتوقف أبدًا، لأنّ بيتنا العائلي بات اليوم يستضيف طيورًا أخرى… عصافير الحيّ!
لاحظتُ عصفورًا واحدًا يقف حارسًا فوق قرميد السطح، فيما كانت العصافير الأخرى تأكل بفرح. قلت في نفسي: ما هذه الحكمة وهذا التنظيم، فعلى الرغم من أنّها طيور، إلا أنّ لها حارسًا للحماية!
حكيتُ الأمر لأحفادي.
– «لنذهب لأصوّرها بالفيديو»، قال أحد أحفادي.
ابتسمتُ… جيل مختلف، وعادات أخرى. «سنذهب يومًا ما…» لكن الأيام مرّت، وتلاشت في مجرى الزمن.
في أوائل آب، مرضت أمّنا. وبالطبع تذكّرنا عصافيرها. إلى العمل إذًا، فالواجب ينادينا. فعلنا تمامًا كما كانت تفعل هي قبل أن تلزم الفراش؛ وضعنا الخبز على الفرن مرارًا وتكرارًا… اليوم، وغدًا، وبعد غد… لكن العصافير لم تعد تظهر. كنّا ننتظرها ونقول: «لا بدّ أن تأتي اليوم لتأكل، فقد مضت أيام كثيرة…».
في الحادي عشر من آب، طلبت منّا أمّنا أن نُجلسها قليلًا في الباحة. جلسنا إلى جانبها، كما في الأيام الجميلة الماضية حين كنّا أطفالًا نجلس في حضنها لتقصّ علينا الحكايات. تذكّرنا العصافير وعلّقنا قائلين: «حتى العصافير أدركت أنّ صاحبة المائدة مرضت، ولذلك لم تعد تأتي الآن، رغم أنّنا نضع الخبز كل يوم».
هزّت أمّنا رأسها بابتسامة هادئة، ثم قالت:
– «لا، ليس هذا هو السبب في عدم مجيئها، أنتم مخطئون».
– «إذًا، لماذا؟»
– «إنه عيد انتقال السيّدة العذراء، والصوم الكبير الخاص به. العصافير تمتنع عن الأكل…».
– «لكن يا أمي، ما هذا الكلام…» ضحكنا عفويًّا، أمور لا تُصدَّق! ماذا تقولين الآن؟
– «أقول لكم الحق، هكذا الأمر، العصافير تصوم».
– «لكن يا أمي…» اعترضتُ، «وكيف تعرف الطيور الآن أنّه عيد انتقال السيّدة العذراء وأن عليها أن تصوم؟»
– «إنها طيور ذكية جدًّا، حباها الله بموهبة».
تبادلنا النظرات ونحن نبتسم، وكأننا شركاء في السر: «نعم… هذه هي أمّنا التي نعرفها».
لكن أمّنا فهمت ما يدور في خاطرنا. يا إلهي!
– «سأثبت لكم ذلك حتى تقتنعوا» بابتسامة واثقة.
ضحكتُ مجددًا وأنا أتذكّر حصص الرياضيات في مدرستي الابتدائية الرسمية، حيث كانوا يعلّموننا في الصف الثالث الابتدائي هذه القاعدة الأساسية: «المعطيات، المطلوب، البرهان». وها هي أمّي الآن، بنفسها، تقدّم البرهان.
تذكّرتُ أيضًا عامًا كنتُ فيه معلّمة شابة، حين ذهبت إلى قرية أمّي لأعمل هناك أثناء الانتخابات. اقترب مني مختار القرية، وهو زميل دراسة قديم لأمّي، وأكّد لي كم كانت تلميذة ذكية، ولا سيّما في مادة الرياضيات. لدرجة أنّها كانت تتخطّى الصفوف، فأنهت الصف الخامس الابتدائي في ثلاث سنوات فقط! كانت تلك هي الأيام الذهبية التي كان فيها الأطفال الموهوبون يشقّون الطريق أمامهم. لكن في ذلك الوقت، أخرجها جدي من المدرسة لتساعد في العمل في الحقول. ولمدّة ثلاثة أشهر، كان المعلّم يتوسّل إليه أن يعيدها إلى المدرسة… أمّا أمّنا، فلم تخبرنا يومًا بهذه القصة.
وها هي أمّنا الآن، بعقلها المنظَّم، مستعدّة لأن تثبت لنا الأمر أيضًا. ابتسمنا مجدّدًا مثل توما غير المؤمن. أحقًّا معقولٌ أن تصوم العصافير في عيد انتقال السيّدة العذراء؟
قالت أمّنا بهدوء وطمأنينة، وبصوت خافت: «سترون… العصافير ستعود إلى بيتنا في الخامس عشر من آب، عند انتهاء الصوم. ستأتي من أجل مائدة عيد انتقال السيّدة العذراء»
قالت أمّنا بهدوء وطمأنينة، وبصوت خافت: «سترون… العصافير ستعود إلى بيتنا في الخامس عشر من آب، عند انتهاء الصوم. ستأتي من أجل مائدة عيد انتقال السيّدة العذراء»، قالت ذلك وهي تبتسم.
أطبقنا أفواهنا، نحن أبناؤها، «المعلّمون الذين يظنّون أنهم يعرفون كل شيء». أنصدّق هذا؟ أيمكن حقًا أن يكون صحيحًا؟
تذكّرتُ قصة قرأتها عن الشيخ باييسيوس، إذ كان يمكث صائمًا تقريبًا طوال فترة صوم عيد انتقال السيّدة العذراء، مكرّمًا بهذه الطريقة ذكراها المباركة. هكذا عظُم هذا الصوم.
– «نعم، إنه صوم بهذه العظمة من أجل سيّدتنا والدة الإله المباركة».
شَعرها الفضي، ووجهها المليء بالتجاعيد، ويداها المليئتان بالعروق، وحكمة التسعين عامًا، ومرارة الترمل منذ شبابها، ونظرتها الواضحة، وملامحها الهادئة… كل ذلك حال دون أن نتابع الكلام.
كانت واثقة جدًّا مما تقول، وبالقدر نفسه كنّا نحن مقتنعين أنّه لا يمكن… لكننا لم نجرؤ على المتابعة. نحن نحترم أمّنا. إنّها مريضة…
لقد شاخت وشبعت من أيّام الحياة. غصّة ثقيلة وحزن يخيمان علينا.
أين تلك العصافير الآن لتعطينا شيئًا من الفرح؟ أين غابت؟
مرّت الأيام مجددًا، ولم يخلُ الفرن من الخبز، إذ كان ينتظر هو أيضًا أصدقاءه الجائعين من ذوي الأجنحة في الحيّ. لكن العصافير لم تطأ أقدامها المكان.
أشرقت شمس الخامس عشر من آب، ومع اقتراب الظهيرة بدأت العصافير الصغيرة تصل تباعًا إلى فرن أمّنا. امتلأت باحتنا الصغيرة بزقزقات وأغنيات وبهجة غامرة. أيمكن أن يكون هذا معقولًا؟ أكانت أعيننا ترى حقًا ما يحدث؟
– «ها هي»، قالت أمّنا مبتسمة، «لقد جاءت من أجل مائدة عيد انتقال السيّدة العذراء، بعد كل هذا الصوم تكريمًا لسيّدتنا والدة الإله. أرأيتم ما كنت أقوله لكم؟ هاتوا خبزًا للطيور!».
كانت عصافير الخامس عشر من آب ترفرف بفرح بأجنحتها الصغيرة، تلتقط طعامها المتواضع، وتسبّح شاكرة لخالقها.
كانت تفرح بالحياة وبالخبز، وتكرّم سيّدتنا والدة الإله، وتحمد أمّنا العجوز على مائدة الخامس عشر من آب!
ترجمة: وديع أبو رحال
No Result
View All Result