
بهذه العلامة ننتصر
كتب المؤرِّخ الكنسيُّ يوسابيوس القيصريُّ (حوالي 260 – 339 م) أسقف قيصريَّة ماريتيما (Caesarea Maritima)، المدينة الَّتي اشتهرت مع هيرودس الكبير بين 22–10 ق.م وسمَّاها على اسم الإمبراطور أغسطس قيصر، وتقع على الساحل الشرقيِّ للبحر الأبيض المتوسِّط، بين يافا وحيفا، كتب في كتابه «حياة قسطنطين» حيث كان مقرَّبًا من الإمبراطور قسطنطين الكبير، بأنَّ الأخير روى له شخصيًّا أنَّه إبَّان حربه ضدَّ الإمبراطور ماكسنتيوس (Maxentius) الَّذي انتصر عليه في معركة جسر ميلفيان (Milvian Bridge) سنة 312م الشهيرة في روما، أخبره بأنَّه بينما كان يصلِّي رأى بعينيه حوالي الظهر صليبًا من نور في السماء فوق الشمس، يحمل كتابة «بهذه العلامة تنتصر». ويكمل إفسابيوس بأنَّ قسطنطين ساوره الشكُّ، فما كان أن ظهر له الربُّ في نومه بنفس العلامة الَّتي رآها في السماء، وأمره بأن يصنع مثالًا لها وأن يستعملها كوقاية له في كلِّ حروبه مع أعدائه.
في الفجر طلب قسطنطين من الحرفيِّين أن يصنعوا العلامة من ذهب وحجارة كريمة، ويؤكِّد إفسابيوس بأنَّه شاهد ما صنعه قسطنطين، أي علامة الصليب والحرفين الأوَّلين لاسم المسيح XRISTOS باليونانيَّة، أي XR بشكل يكون الحرف الثاني في وسط الأول، على راية Labarum، مطرَّزة بحجارة كريمة ومغشَّاة بالذهب، ووضعها أيضًا على قبَّعته. وصُنعت رايات مثيلة ليحملها الجيش، وأُضيفت أحيانًا حروف أخرى مثل ألفا (Α) وأوميغا (Ω) للدلالة على المسيح «البداية والنهاية». وانتشرت العلامة بين العسكر على الرؤوس والدروع والرايات.
ويذكر المؤرِّخ أنَّ الامبراطور استدعى كهنة مسيحيِّين ليفسِّروا له معنى العلامة والأحرف ويشرحوا له عن الربِّ يسوع المسيح. وبعد دخوله روما وانتصاره، طلب أن يُصنَع له تمثال في وسط مدينة روما مع حربة على شكل صليب، محفور عليها أنَّه انتصر بفضل علامة الصليب وحرَّر المدينة من نير البطش لكون ماكسنتيوس قام باعتداءات كثيرة ومجازر كبيرة بحق الشعب والمسؤولين والمسيحيين.
انتصار قسطنطين مهَّد الطريق لانتشار المسيحيَّة في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة بشكل كبير، ويبقى أن نتأمَّل بما حدث معه، وتكون علامة الصليب رايتنا في حربنا الروحيَّة، أي جهادنا وسعينا للقداسة.
فبعلامة الصليب ننتصر على الشرِّير الَّذي يريد أن يُسقطنا في ظلمته، وبإشارة الصليب نشدِّد عزيمتنا ونتشدَّد، لأنَّها علامة انتصار المسيح على الموت. لقد دعانا الربُّ إلى أن نحمل الصليب ونتبعه. هذا هو شرط الحياة الأبديَّة. فالصليب هو التخلِّي عن كلِّ ما يُبعدنا لنعيش الإنجيل، وإفراغ الذات من الامتلاء من الروح القدس والارتفاع إلى موطننا الأوَّل مع المسيح القائم والمنتصر. كذلك ننقش اسم يسوع المسيح في قلبنا، ويكون عشقنا وغايتنا وهدفنا الاتِّحاد به.
وإذا لاحظنا جيِّدًا لَوَجدنا أنَّ علامة الصليب موجودة بكثرة في كنائسنا وعلى قببها، والكاهن يبارك الشعب برسم إشارة الصليب عليهم. كذلك يفتتح الكاهن القدَّاس الإلهيَّ ممسكًا الإنجيل ويرسم به إشارة الصليب فوق المائدة في وسط الهيكل وهو يقول: «مباركة مملكة الآب والابن والروح القدس». كذلك أعياد الصليب المقدَّس في الكنيسة كثيرة، وأشهرها عيد رفع الصليب الكريم المحيي في 14 أيلول من كلِّ عام، الَّذي نحتفل فيه بذكرى اكتشاف الصليب المقدَّس في أورشليم على يد القدِّيسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين (سنة 326م)، وأيضًا ذكرى رفع الصليب في كنيسة القيامة في أورشليم في سنة 335م يوم تدشينها، وهي الَّتي أمر قسطنطين بتشييدها، حيث رُفِعَ الصليب أمام الشعب ليتبارك به المؤمنون، وأيضًا يرتبط هذا العيد بذكرى إعادة الصليب من الفرس سنة 628م على يد الإمبراطور هرقل.
نعم، الصليب إشارة النصر لأنَّ عليه أعطانا المسيح الغلبة وتمَّ الفداء، ويبقى أن نقبل سرَّ الصليب في حياتنا ونتعرَّى من خطايانا ونصلب أهواءنا المميتة، ونؤمن بأنَّه جسر لولادة جديدة طاهرة نقيَّة. قد يظنُّ البعض أنَّ الصليب عار ويعتبرنا جهلة وكفَّارًا، ولكن خارج منطق المحبَّة الإلهيَّة اللامحدودة للبشر لا يمكن فهم الصليب ولا التجسُّد الإلهيُّ والثالوث القدُّوس الواحد في الجوهر الإلهيِّ، ولكن إن تواضعنا وسمحنا للروح القدس بأن ينير فكرنا وعقلنا لردَّدنا نحن أيضًا مع قسطنطين: «بهذه العلامة ننتصر»، وحرَّرنا ذواتنا من كلِّ مكايد الشيطان وحيله الخبيثة، لهذا نجد أنَّ أكثر ما يزعج إبليس هو الصليب لأنَّه عليه انهزم وخسر.
يبقى الصليب المقدَّس أيقونة الأيقونات في لاهوتنا وإيماننا. هو الأيقونة الَّتي ما إن ننظر إليها بصدق لتفتَّت قلبُنا الحجريُّ وملأه الحنان الإلهيُّ. ولا بدَّ لنا من أن نذكر أنَّ الصليب هو سرُّ الأسرار، فكيف لعقلنا البشريِّ أن يستوعب أنَّ الربَّ الخالق صُلِب ومات. إن توقَّفنا هنا لوقعنا في الشطط والجهل وتعثَّرنا، ولكن إن أكملنا نحو القيامة استنار ذهننا، لأنَّ المص
ولكن إن أكملنا نحو القيامة استنار ذهننا، لأنَّ المصلوب هو إله كامل وقام بسلطان طبيعته الإلهيَّة من بين الأموات وفتح لنا السموات.
ما أجمل أن نرنّم: «لصليبكَ يا سيِّدنا نسجد ولقيامتك المقدَّسة نمجِّد». هنا يتَّضح السرُّ، فمن ولد هو الإله، ومن صُلِبَ هو الإله، ومن قام هو الإله. فالصلب والقيامة توأمان لا ينفصلان إطلاقًا، لأنَّ الموت عن الذات هو الولادة الجديدة الَّتي هي القيامة والظفر.
إلى الربِّ نطلب.
الأب أثناسيوس شهوان
No Result
View All Result