
الإخوة الثلاثة … قصة حقيقية
كانوا ثلاثة إخوة حينما توفّي والدهم التاجر المشهور بتقواه وثرائه الوافر: شابّان يافعان وأخاهما الأصغر في طور النموّ. اجتمع ثلاثتهم، بعد أن انتهت فترة الحداد، وجاء معهم كاهن رعيّتهم، الذي كان يرفع قلبه بالصلاة لكي تدوم محبّتهم نحو بعضهم البعض صادقة حارّة كما هي.
خرجوا من الاجتماع بقرار عادل يكفل لكلّ واحد منهم نصيبه من الميراث على أن يُوزَّع عليهم بعد مدّة ضمان استثماره في مشروع معيّن. اقترح الأخّان الأكبران إبرام عقد الاتّفاق يوقّع عليه ثلاثتهم، ويكون الأب الكاهن شاهداً.
أمّا الأخ الأصغر، الذي لم يكن قد تجاوز طور المراهقة، فرفض فكرة العقد والتوقيع، متعلّلاً بأنّهم إخوة، ولا يجمعهم سوى الحبّ الصادق، وأنّ كلمة اللسان هي خير ضمانة بينهم، وبخاصّة وقد حضر اتّفاقهم الأب الكاهن، وكان شاهدًا عليه.
ولكنّ إبليس المحتال ما لبث أن لعب بعقل الأخوين الأكبرين، ولمع بريق الأموال في أعينهما. فدبّروا، مع مرور السنين، خيوط عمليّة تزوير ضدّ أخيهما، الذي تخرّج من الجامعة، واحتاج إلى مال ليبدأ حياته. ففوجئ بأخويه يخبرانه:
– ليس لك أيّة حقوق عندنا.
– كيف يكون هذا، أليس…
– لا تتكلّم. ليس لك حقّ في شيء.
– ولكن هذا ظلم.
– إفعل ما يحلو في عينيك، واضرب رأسك بألف حائط. هذا هو جوابنا الأخير: ليس لك شيء عندنا.
ذهب الشابّ مسرعاً إلى الكاهن، وهو في غاية الاضطراب، فربّت الأب على كتفه، مهدّئاً من روعه، واصطحبه إلى حيث يوجد أخواه. وهناك كانت المعركة رهيبة وقف أمامها الشابّ الصغير باكياً، ليس على نصيبه من الميراث، بل على المحبّة التي فُقدت بينهم، والعداوة التي ولّدتها محبّة الأموال.
كان واقفاً، في ذهول شديد، يستمع إلى الحديث الغاضب، والصوت المرتفع المحاجج، والكلمات القاسية الجارحة. راح قلبه يبكي، ودموعه تجري بغزارة تبلّل وجهه، وتمسح صدره الغضّ بحبّ المسيح، الذي
رآه، وسط هذه الدموع، معلَّقاً على صليبه، لا ليُرضي ذاته، بل ليشترينا بدمهِ الغالي الثمين.
وما هي إلّا لحظات حتّى انتفض الشابّ واقفاً صارخاً، ليقطع صوت شجار الأخوين بكلمات صارمة ملؤها الحبّ:
– كفى، كفى، يا أخويّ. المسيح اشترانا بدمه، وصليبه هو كنزنا. إنّي أتنازل عن حقّي لكما. نعم، يا أبي المبارَك، إنّي أتنازل لأشترك في صليب المسيح، ولا أُرضي ذاتي. وحدها المحبّة غالية ثمينة. وحدها المحبّة تستحقّ التضحية.
– كيف يكون هذا، يا ابني، إنّه حقّك، ولا بدّ أن تأخذه. إنّي شاهد على جلستكم واتّفاقكم.
– ليس لي أيّة حقوق، يا أبانا. إنّي أتنازل عنها. صليب المسيح يلحّ عليّ، وها هو أمام ناظريّ بدمه الكريم. نعم، سأشتري بهذا الظلم السماء كما اشترانا المسيح بدم صليبه من خطايانا. نعم، سأشتري به السماء.
قال هذا، ثمّ اتّجه نحو أخويه معانقاً، ودموعه الغزيرة تبلّل خدّيه، وكلماته يتمتمها خافتةً: “سامحاني، يا أخويّ، سامحاني”. ثمّ انسحب مغادراً بهدوء كلّيّ .
وفي صباح الأحد التالي، دخل الشابّ الكنيسة باكراً، وقبّل يد الأب، طالباً أن يستمع اعترافه، لكي يشترك بالأسرار الطاهرة، ثمّ همس فى أذنه: “يا أبي المبارَك، لقد شاهدتُ أمّنا العذراء فى حلم هذه الليلة، وقالت: “لقد تفوّهتَ بكلمة سجّلتْها لك السماء عندما طلبتَ أن تشتريها بنصيبك من ميراث أبيك. لقد استجاب ابني طلبك، وقَبِل أن تشترك في صليبه، وتشتري نصيبك السماويّ بما حملت من صليب الظلم معه… إذهب غداً إلى الكنيسة، وتناول من الأسرار المقدّسة، وبعدها ستكون السماء مستعدّةً لاستقبالك، حتّى تأخذ حقّك فى الميراث الأبديّ “حيث لا يسرق سارق ولا يفسده سوس” (لوقا 33 : 12).
وعندما عاد الشابّ من الكنيسة، أراد أن يرتاح، قليلاً، فتوجّه إلى غرفته، واستلقى في فراشه. ولكنّه حينما فتح عينيه لم يفتحهما على عالمنا هذا الفاني، بل على عالم المجد في السماء التي وُعد بها، واشتراها بثمن المحبّة والتواضع.
ولمّا وقف الكاهن يصلّي خدمة الجنّاز على الشابّ الراقد، كان يمسح دموعه وهو يقول: “اقرأوا معي هذا الإنجيل المعاش، هذا هو الشابّ الذي حمل صليبه، واشترى السماء بمال الظلم” (لوقا 16).
“إحترسوا مِن كُلِّ ظُلْم (سي 17: 14)، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَك يَكرَهُ كُلَّ مَن يَعمَلُ بِالظّلم(تث 25: 16) والسَّماءُ والأَرضُ شاهِدَتانِ على الظالم (1مك 2: 31)، والرب يسمع صراخ المظلومين(خر3: 9) فلا يَظْلِمْ أَحَدُكم قَريبَه، بلِ آتَّقِ إِلهَكَ(لا 25: 17) فمَن يَظلِمِ الفَقيرَ يُهِنْ خالِقَه (ام 14: 31)”.
No Result
View All Result