
الصليب أداة جريمة كيف تُكرّمونه؟
عبارة شهيرة جداً، غالباً ما نسمعها من شهود يهوه، الذين يهاجمون إيمان الكنيسة وخاصة الأرثوذكسية، ويعترضون على إكرام الصليب وتقبيله والسجود له، أو وضعه في الكنيسة وتعليقه على الصدر أو في البيت والسيارة…إلخ.
ومن أجل تضليل وخداع المؤمنين البسطاء، يقولون لهم: هل يوجد إنسان عاقل يُكرّم ويُمجّد ويُقبّل المُسدّس أو السكين الذي قُتلَ أو ذُبحَ به إبنه أو أخوه أبوه؟!
يبدو هذا الكلام في ظاهره مقبولاً ومنطقياً، ولكن مع قليل من التعمّق فيه سنكتشف أنه مثل سفسطائي، ولا يَصلح إطلاقاً إستخدامه أو تطبيقه على شخص الرب يسوع المسيح. لماذا؟
لأن الإنسان الذي يموت قتلاً بالمُسدّس أو بالسكين لن يعود للحياة ثانيةً، وبالتأكيد سيترك حُزناً وألماً عميقاً في قلوب الذين يحبونه، وإزدراءً واحتقاراً منهم للأداة التي قُتل بها.
أما بالنسبة للرب يسوع المسيح، لم تَنتهِ به الحكاية عند الموت على الصليب والدفن في القبر، لأن أداة موته (الصليب) أضحت هي ذاتها أداة إنتصاره على هذا الموت، وتحطيمه لمملكة الجحيم، وتحقيق غلبته عليها بقيامته المحيية الخلاصية في اليوم الثالث، وبها أقامنا معه نحن أيضاً، منتصرين به على الموت وقوة الخطيئة وسُلطان إبليس.
إذا أُصيب شخصٌ ما بطلقٍ ناري ونُقل بسيارة الإسعاف إلى المستشفى في حالة خطر الموت، سيقوم الطبيب في غرفة العمليات باستخدام مِبضَع (سكين حادّ) لكي يُخرج بواسطته هذه الرصاصة المُميتة من جسده وينقذ حياته.
فهل نتوقّع بعد إجراء العملية الجراحية ونجاحها، واستعادة هذا الإنسان المصاب لوعيه، والذي كان في حكم الميت وتمّ انقاذه.
هل نتوقّع منه أن ينظر إلى هذا السكين، وسائر الأدوات التي إستخدمها الطبيب لإخراج الرصاصة وإنقاذ حياته، نظرة إحتقار وازدراء لأنها سبّبت له ألماً ونزيفاً أثناء العملية.
أم أنه سينظر إليها على ضوء شفائه ونجاته من الموت الذي كان ينتظره لولاها، باعتبار أنها صارت أداة خلاصه ونجاته من الموت، فيُقدّر كثيراً شخص الطبيب الذي عالجه، ويحترم أدواته التي إستخدمها في إنقاذه؟!
الصليب والقيامة مُتلازمان في اللاهوت الآبائي الأرثوذكسي، وهما وجهان لحقيقة واحدة هي حقيقة الفداء والخلاص، ولا نستطيع الفصل بينهما أبداً، ولا يُمكننا الكلام عن الصليب إلّا من منظار قيامة المسيح، ولا أن نتكلّم عن فرح ومجد القيامة إلا مروراً من خبرة ألم وموت الصليب.
ونحن نُكرّم الصليب إنطلاقاً من حقيقة القيامة بما أنه الأداة التي حصل بها خلاصنا وفداؤنا.
وما يقوله شهود يهوه عن عدم منطقيّة إكرام الصليب، سيكون صحيحاً، فيما لو كان المسيح بقي في القبر ميتاً ولم يقم!
وسيكون إكرامُنا للصليب جنوناً لا معنى ولا قيمة له لو لم ينهض المسيح من بين الأموات ويسحق بصليبه سُلطان الجحيم، ويُعطينا بواسطته الحياة.
لهذا نحنُ نُوقّرهُ ونُقبّله ونسجد له ونُكرّمه (ولا نعبُدُه) لارتباطه بشخص المسيح الفادي وبعمله الخلاصي من أجلنا.
لأن ربنا يسوع المسيح، طبيبنا الإلهي، بواسطته أخرج من بشريّتنا “رصاصة” الخطيئة والموت وفساد الطبيعة، وحرّرها من عبودية إبليس، ووهب لنا النجاة والحياة الأبدية.
ولذلك، الكنيسة تكرّم الصليب المقدس، وتكرّم معه سائر أدوات خلاصنا، أعني بها، المسامير وإكليل الشوك والحربة…إلخ.
وهكذا أصبح الصليب مرتبطاً بشكل وثيق بشخص الرب يسوع المسيح، وبتدبيره الخلاصي لأجل فداء البشر، تماماً كما يرتبط العرش والتاج والصولجان بشخص الملك نفسه، مشيراً إلى ملكوته وقوّة وعظمة سُلطانه.
وصار الصليب هو «علامة إبن الإنسان» المميزة التي ستظهر في السماء في منتهى الأزمنة وتسبق معلنةً مجيئه الثاني (متى 24: 30) كما شرح ذلك الآباء القديسون.
إن كان الصليب بالنسبة لشهود يهوه هو مجرد “أداة جريمة أو عقوبة إعدام” وعلامة مُحتقرة ومرذولة، فهذا يعكس جهالة الهالكين، بالحكمة الإلهية التي تجلّت بالصليب، ويُظهر جذور فكرهم اليهودي:
«إِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ… وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً!» (1 كورنثوس1: 23).
وذلك لأن شهود يهوه أصلاً لا يؤمنون بقيامة المسيح بجسده من بين الأموات.
أما كنيسة المسيح المقدسة المُفتداة بدمه المُهراق على عود الصليب الكريم، فالصليب هو فرحها وقوّتها ورجاؤها ومجدها ومبعث إفتخارها، وهي تهتف على الدوام مع بولس الرسول قائلة: «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية 14:6).
ولا تنفكّ الكنيسة الأرثوذكسية في صلواتها الليتورجية، تُذكّر المؤمنين بأن الصليب هو الذي جَلبَ الفرح للعالم:
هلمّوا يا معشَر المؤمنين نسجد لقيامة المسيح المقدسة، فها إن الفرح قد أتى بالصليب لكل العالم…».
(القطعة التي تتلى مباشرة بعد الإنجيل السَّحَري للقيامة في صلاة السَّحَر لأيام الاحاد).
«الصليب حافظُ المسكونة كلّها. الصليب جمالُ الكنيسة. الصليب تأييد الملوك. الصليب عضَد المؤمنين. الصليب مجد الملائكة وجُرح الشياطين».
(الاكسابوستيلاري في سَحريّة عيد رفع الصليب).
الأب رومانوس الكريتي
No Result
View All Result