الاعتدال والقناعة
يقول المثل الشهير: «القناعة كنزٌ لا يفنى». وهذه القناعة ليست ضعفًا ولا تقهقرًا، بل هي حكمة روحية وفضيلة إنسانية عميقة. وفي المعجم، يُفهم الاعتدال على أنّه توسّطٌ بين الإفراط والتفريط، واتّزانٌ في الحكم والعمل والمنطق. فحيث تكون القناعة، يكون الاتّزان، وتُولد الفضيلة.
أولاً: الاعتدال أساس الفضائل
الاعتدال هو فضيلة ثابتة، راسخة، متّزنة. من دونها نفقد الركائز التي تبني الإنسان والمجتمع. فقد صار العالم اليوم يعيش في مبالغة مستمرّة: مبالغة في الكلام، في الاستهلاك، في المظاهر، في الخيارات…
ومتى تحكمَت فينا روحُ العالم، تتبدّل المقاييس، وتغيب القناعة، وننقاد إلى الإفراط الذي يدمّر اتّزاننا الداخلي ويُضعف قيمنا البشرية.
ثانيًا: خطر المبالغة وفقدان القناعة
عندما نعيش بلا حدود، ندرك سريعًا انهيار مقوّمات الإنسانية في داخلنا. فالمبالغة تؤدّي إلى التذمّر المستمر، وإلى عدم الاقتناع بالواقع، وإلى مطاردة ما هو أكبر وأسرع وأكثر، من دون تمييز.
لذلك يُطلب منّا اليوم ضبط النفس وتهذيب الرغبات والعودة إلى قلبٍ بسيط يعرف ما يريد، ولا ينجرّ وراء نزوات اللحظة.
ثالثًا: الاعتدال في حياة أبائنا ومجتمعنا
على مرّ التاريخ، عاش أجدادنا القناعة في تفاصيل حياتهم:
-
اعتدال في الطعام والشراب.
-
بساطة في البناء والمسكن.
-
اكتفاء بما تجود به الأرض.
ولعلّ جمال المطبخ اللبناني مثالٌ حيّ على هذه الروح: طعام صحيّ، غير مبالغ فيه، مبني على عناصر طبيعية من الحقل. هذا ليس تفصيلاً صغيرًا، بل علامة على ثقافة تثمّن البساطة والاعتدال.
رابعًا: ماذا خسرنا اليوم؟
لقد أفرغ العالم الحديث مفهوم القناعة من معناه. أصبح كل شيء سريعًا، استهلاكيًا، سطحيًا. صارت القيم تُباع وتُشترى، وغاب الاتّزان الذي كان يصون جمال الحياة.
لكن الاعتدال لا يعني رفض الحياة، بل يعني أن نعيشها بعمق، بفرح، وبطريقة مختلفة تُشبهنا نحن، وتُشبه روحانيتنا.
خاتمة
إنّ الاعتدال دعوةٌ إلى العودة إلى الذات، إلى الجمال البسيط، إلى القناعة التي تُحرّر القلب. هي طريقٌ روحيّ يحمينا من تشويش هذا العالم، ويعيد إلينا إنسانيتنا.
فلنطلب من الربّ أن يهبنا حكمة الاعتدال، ونعمة القناعة، كي نعيش في قلب الحياة، لا على هامشها، وبروحٍ مملوءة سلامًا وثباتًا.

















