الحكمة والفطنة
فضيلة الرجاء، إحدى الفضائل المسيحية الأساسية التي تغذّي وتنعش حياتنا الروحية، وتجعلنا نعيش الثقة الدائمة بالله رغم كل الصعوبات.
الرجاء هو قوة داخلية تولد من الإيمان وتثمر بالمحبّة.أنّ الإنسان مدعوّ إلى أن يتحلّى بمجموعة من الفضائل التي تنمّي فيه السلوك الأخلاقي الصالح وتمنحه الفرح الداخلي.
الفضائل (Vertus) هي مواقف وسلوكيات نابعة من القلب، تجعل الإنسان يتصرّف بطريقة منسجمة ولطف مع الغير.
الفضائل كانت معروفة منذ العصور القديمة:
-أرسطو تحدّث عنها بإسهاب، معتبرًا أن الإنسان الفاضل هو من يعيش التوازن بين الإفراط والتفريط.
-القديس أوغسطينوس اقتبس من فكر أرسطو وأضاف إليه البعد الإيماني.
-ثم جاء القديس توما الأكويني فربط بين الفلسفة والعقيدة المسيحية، مبيّنًا أن الفضائل الطبيعية تكمّلها الفضائل الإلهية.
1- الفضائل الإنسانية أو الأدبية (الطبيعية):
تنتمي فضيلة الرجاء إلى عائلة أوسع من الفضائل التي تحدّث عنها الحكماء القدماء، وهي الفضائل الأربع الكبرى:
الحكمة والفطنة – التصرّف بعقل سليم وتمييز.
الاعتدال والقناعة – التوازن وضبط الذات.
العدل والعدالة – إعطاء كل ذي حق حقّه.
القوة – الثبات في الخير رغم الصعاب.
هذه الفضائل كانت موجودة عند الشعوب القديمة، وهي تُشكّل الأساس الأخلاقي في حياة كل إنسان.
2- الفضائل اللاهوتية (الإلهية):
أما في الإيمان المسيحي، فقد أُضيفت ثلاث فضائل إلهية:
الإيمان – الرجاء – المحبّة
هذه الثلاث هي عطايا من الله، تغذّي الإيمان وتعمّقه في حياتنا اليومية ومع الفضائل الأربع، يصبح العدد سبعة – عدد الكمال في الكتاب المقدّس، الذي يرمز إلى الامتلاء الروحي والنعمة.
معنى الفضيلة وسلوك الحياة
الفضيلة ليست فكرة نظرية، بل موقف عملي وسلوك دائم. من يعيش الفضائل يكون منتظمًا، لطيفًا، متنبّهًا، مرنًا في التعامل مع الآخرين. لا يكون قاسيًا أو صلبًا في مواقفه (rigide) بل يعبّر عن رقةٍ وإنسانيةٍ نابعة من محبّة الله. نلاحظ هذا في الأشخاص الذين غادرونا إلى بيت الآب، إذ غالبًا ما نتذكّر فيهم الفضيلة، لأنّها تترك بصمة سلام وفرح.
الرجاء والفرح
الرجاء المسيحي هو الثقة بأنّ الله لا يتركنا، وأنّ المستقبل بين يديه.
هو فضيلة تمنح الفرح، لأنّها تحرّرنا من القلق واليأس. دعوة الإنسان ليست إلى التكدّر والحزن، بل إلى الفرح الحقيقي الذي ينبع من الثقة بالله. الفضيلة دائمًا تعطي الإنسان هذا الفرح، لأنها ثمرة المحبة والسلام الداخلي. مدعوّون لنعيش الفضائل، هذه الكنوز الروحية التي تشكّل نهج حياةٍ مسيحيٍّ ثابتٍ لا يتبدّل مهما تغيّر الزمن. الفضائل ليست أفكارًا نظرية، بل سلوك عملي ملموس، يوجّه تصرّفاتنا اليومية نحو الخير والقداسة.
الفضائل: طريق الإنسان نحو الكمال
الإنسان المسيحي مدعوّ إلى أن يتمايز بالفضائل، لأنها تغذّي الإيمان وتعطي الفرح الداخلي، وتساعدنا على أن نعيش السماء ونحن بعد على الأرض. الفضيلة ترفعنا، كما يقول أصل الكلمة اللاتينية educare = élever vers le haut، أي “الارتقاء نحو العلى”. من يعيش الفضيلة، يشعر بطعم السماء على الأرض. فضيلة الحكمة والفطنة (Prudence)
فضيلة الفطنة ليست حذرًا من الناس، بل هي قدرة على التنبّه والتمييز، هي استعداد ثابت وعادي لفعل الخير في الوقت المناسب. الإنسان الفطن لا يتهوّر، بل يأخذ بُعدًا قبل أن يتصرّف، فيخفّف من المشاكل، ويزرع السلام حيث يوجد الاضطراب. الفطنة تجعلنا نقرأ الأحداث بنور الإيمان، وتساعدنا على أن نرى الأمور كما يراها الله.
هي فضيلة تجعلنا نتهيّأ للتميّز، on prépare à l’excellence، أي نتهيّأ لنعيش الفضائل بعمقٍ ووعي.
الفضائل في تربية الإنسان
الفضائل هي أساس التربية والقيم الأخلاقية والروحية. الأبناء الذين ينشأون على الفضائل يصبحون سفراء حقيقيين في العالم، لأنهم يتميّزون بالإنسانية، يحبّون العلم، ويجعلون من المعرفة طريقًا للحياة. الفضيلة تُربّي على القناعة والشجاعة، وهما من أنفع الأمور للناس. الكتاب المقدّس يشير إلى ذلك في سفر الحكمة (فصول 7 و8)، حيث يُقال إن الحكمة هي أمّ الفضائل، تفيض بالخير والشجاعة والاستقامة.
نظرة الإيمان إلى الحياة والموت
العالم الأرضي متسارع، والوقت يمضي، وكلنا نسير نحو الموت. لكننا نحن المؤمنين نختلف عن سائر المخلوقات، لأننا نعي أنّ الموت ليس النهاية. نحن الكائنات الوحيدة التي تعلم أنّها ستموت، ولكن أيضًا ترجو قيامة الموتى. في داخلنا، هناك انتفاضة على الموت، لأنّنا نحمل رجاء القيامة.
المسيحي يدرك أنه ذاهب إلى الفناء الجسدي، لكنه في الوقت نفسه مدعوّ إلى القيامة والحياة الأبدية.
الفضيلة طريق إلى القداسة
الفضائل تهيّئنا لعيش الحياة المسيحية بملئها. الذي يعيش الأمور العادية بطريقة عجائبية، يكتمل في حياته الإيمان، فتصبح الفضائل فيه كالنور الذي يشعّ على الأرض، ويستبق به ملكوت السماوات قبل الوصول إليه.
من يعيش بالفضيلة يشعر أنه يلمس السماء هنا والآن، لأن الله نفسه يسكن في القلب الفاضل.
الفضيلة فرحٌ عميقٌ يولد من الحبّ. هي نعمة وثمرة جهدٍ وتربيةٍ مستمرّة. فلنطلب من الرب أن ينمّي فينا فضيلة الفطنة والحكمة، لكي نعيش التوازن، ونزرع الخير، ونسير نحو السماء بثقة وفرح.
«البرّ هو الفضيلة التي تُعلّم القناعة والشجاعة، ولا شيء أنفع منها للناس» (راجع سفر الحكمة 7-8)
الإنسان لا يستطيع أن يتنكّر للفضائل. فمن يرفض طريق الفضيلة، يعيش التقَهقُر والشكوى، لأنّ قلبه يبتعد عن مصدر النور والفرح. أما الذي يسير في درب الفضيلة، فتكون خاتمة حياته الشَبَه بالله. الفضيلة تجعل الإنسان يعيش في ذكر الله وذكره الى الأبد، وتعيد إليه صورته الأولى التي خُلق عليها.
التمييز: أساس الحكمة
علينا أن نميّز دائمًا (discernement) بين ما هو جيّد، وما هو أفضل، وما هو أسمى. الحكمة الحقيقية هي أن نختار الأفضل، أن نعرف ماذا يفرّح قلب الله وماذا يُحزنه. التمييز الروحي هو النور الذي يقودنا لنرى بعمق، لا بعين العالم بل بعين الله.
الحكمة (Prudence) فضيلة الحكمة لا تعني الخوف من الناس، ولا الصمت عن الشرّ.
الكذب والغش ليسا من صفات الحكمة. ومن يبتعد عن الشرّ من دون أن يشهد للحق، يصبح شريكًا في نشره بصمته وتغاضيه. الإنسان الحكيم هو من يرى بوضوح، ويتكلّم بالحقّ بمحبة وهدوء.
الاتزان هو ثمرة الحكمة: أن نرى الأمور بروية، أن نأخذ القرارات بهدوء، وأن نعرف متى نتكلّم ومتى نصمت. هذه النعمة تتطلّب زمنًا وصلاة وصبرًا.
الحكمة عطية مجانية من الله
الحكمة ليست ثمرة ذكاء بشري، بل عطية مجانية من الله.
يقول مار يعقوب الرسول:
«إن كان أحد منكم تنقصه الحكمة، فليطلبها من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يُعيّر» (يعقوب 1:5).
لذلك علينا أن نطلب من الله الحكمة كل يوم، لأنها هبة تُمنح لمن يطلبها بتواضع القلب.
مريم العذراء دُعيت “كرسيّ الحكمة”، لأنها حملت في أحشائها الكلمة، مصدر كل نورٍ وتمييز.
ولبلوغ الحكمة، نحتاج إلى شرطين أساسيين:
حسن التمييز — أن نعرف ما هو صوت الله في داخلنا.
الإدراك الروحي — أن نعي ما يُفرح أو يُحزن قلب الله مسبقًا، فنختار ما يرضيه.
ثمر الحكمة في حياة المؤمن
الإنسان الروحي الذي يطلب الحكمة من الله يصبح مرجعية: يحكم في كل شيء بمحبة وصدق،
ولكن لا أحد يستطيع أن يحكم عليه، لأنه يعيش من نور الله لا من منطق العالم. ضميره حيّ، وكلماته تدخل القلوب لأنها منبعثة من الحكمة الإلهية. هذا الإنسان يستوعب الجميع، ويتكلّم بالسلام، وينقل حضور الله لمن حوله.
مصدر الحكمة
مصدر الحكمة هو الله وحده. لذلك لا يجوز أن نتّكل على ذكائنا أو خبرتنا أو مواقفنا،
لأنّ كلّ شيء في هذا العالم زائل. كما قال أحد الرهبان في فرنسا عند إطفائه شمعة:
“هكذا ينطفئ نور العالم بسرعة.” بهذا يذكّرنا أن عظمة العالم سريعة الزوال،
لكن نور الحكمة الإلهية يبقى إلى الأبد.
روح الحكمة في الطقس اللاتيني، إحدى أجمل الصلوات التي كُتبت في القرن التاسع عشر تقول:
“Veni, Sancte Spiritus” – هلمّ أيها الروح القدس…….وأول ثمار الروح القدس هو روح الحكمة. الروح القدس هو الذي يجعلنا نرى الأمور بنور الله، ويمنحنا أن نعيش التوازن، والتواضع، والتمييز. الرب لا يتكلّم في القوي، بل في الضعيف والمتواضع، لأنّ الحكمة الإلهية تسكن في القلوب البسيطة. الابتعاد عن أضواء العالم صاحب الحكمة لا يبحث عن أضواء العالم، ولا ينجرف وراء ملذّاته أو مجده الزائل. هو يعرف أنّ العظمة الحقيقية هي في البساطة، في الهدوء، وفي خدمة الخير. الحكيم هو الذي يعيش الحق بمحبة، ويشهد للنور من دون ضجيج. من يسير في درب الحكمة والفضيلة، يسير نحو الله. ومن يتنكّر للفضائل، يبتعد عن ذاته وعن فرحه الحقيقي. فلنطلب اليوم من الرب أن يمنحنا روح الحكمة، لكي نعرف كيف نميّز، وكيف نختار الأفضل، فنصبح شبيهين به، نورًا يضيء في عالمٍ يعجّ بالظلمة.
“الربّ يعطي الحكمة، ومن فمه المعرفة والفهم” (أمثال 2:6)
الحكمة طريق السلام
أن نأخذ حجمنا الحقيقي في عالمٍ يطلب النجاح والمظاهر والضجيج، يدعونا الرب إلى التواضع.
التواضع يعني أن نعرف حجمنا الحقيقي أمام الله، أن نسقط من قلوبنا كل الأمور العالمية الزائلة،
وأن نعيش في بساطة وثقة كالطفل بين يدي أبيه. فكل ما في هذا العالم لا يدوم، أما من يعيش في الله، فيحمل في قلبه السلام.
الحكمة الحقيقية
الحكمة – Prudent, Sofia, Sagesse – ليست علمًا أو معرفةً فقط، بل أسلوب حياة روحي.
النفع الحقيقي من الحكمة ليس ماديًا، بل سلام داخلي لا يستطيع أحد أن ينتزعه. الذي يملك الحكمة يعيش مطمئنًا، لا يتوتر، ولا يُوتّر من حوله، لأنّ سلامه لا يأتي من الظروف، بل من حضرة الله في قلبه. الإنسان الحكيم يعيش بسلام من يملك الحكمة يعيش بسلامٍ يشبه سلام الطفل المتصالح مع ذاته. لا شيء يقدر أن يسلبه هذا السلام، لأنه لا يتعلّق بالأشياء الزائلة. في داخله سكينة وطمأنينة لا يزعزعها العالم. هكذا يصبح الإنسان الحكيم مرجعًا في الهدوء والسلام في وسط الضجيج. أيّوب مثال الحكيم المتواضع نتعلّم من أيّوب، الذي قال في وسط محنته:
«الربّ أعطى، والربّ أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا.» (أيوب 1:21)
أيّوب الحكيم لم يفقد سلامه رغم الألم، لأنه عرف أنّ كل شيء من الله وإليه يعود. هو الإنسان الذي يتبدّل في وضعيات حياته، لكنه يبقى ثابتًا في الإيمان، لأنّه يبحث فقط عن الكنز الأوحد: يسوع المسيح.
الفضيلة والإنسانية
الفضيلة تدفعنا لنكون أكثر إنسانيين، لأنها تُعيدنا إلى البساطة واللطف والهدوء. من يعيش الفضيلة يعيش في الواقع لا في الوهم، يقبل ذاته وظروفه كما هي، ويجد في قلب الحياة اليومية حضور الله العامل في الصمت.
الكنز الأوحد
الحكمة والفضيلة دعوة إلى حياةٍ واقعيةٍ في الله. الإنسان المتواضع، الهادئ، المصلي، هو الذي وجد الكنز الحقيقي — يسوع نفسه. هو من يقول في كل حال:
«فليكن اسم الرب مباركًا.»
فلنطلب اليوم من الرب أن يمنحنا روح الحكمة والتواضع والسلام، لكي نحيا المصالحة مع أنفسنا، ومع الله، ومع الآخرين.

















