
طرُقُ العناية الإلهية لا تُدرَك!!
طلب أحد النُّسّاك من الله أن يعرّفه طرق عنايته، وفرض على نفسه صومًا. غير أن الله لم يكشف له ما كان يشتهي معرفته. ومع ذلك لم ينقطع الراهب عن الصلاة، وأخيرًا أنار الرب بصيرته. فعندما كان ذاهبًا إلى شيخ يسكن بعيدًا عنه، ظهر له ملاك على هيئة راهب واقترح أن يكون رفيقه. ففرح الناسك كثيرًا وذهبا معًا.
ولما مال النهار إلى المساء، نزلا ضيفين عند رجل تقي، فاستقبلهما بإكرام عظيم، حتى إنه قدم لهما الطعام على طبق من فضة. ولكن ما أعجب ما حدث! فبعد الطعام مباشرة أخذ الملاك الطبق وألقاه في البحر. فتعجّب الشيخ ولم يقل شيئًا.
ثم تابعا السير، وفي اليوم التالي نزلا عند رجل تقي آخر، فاستقبلهما بفرح، وغسل أقدامهما، وأظهر لهما كل اهتمام. ولكن حدث ما هو أشد! فعندما أرادا الانصراف، جاء المضيف بابنه الصغير ليباركاه، فبدلًا من أن يباركه، لمس الملاك الصبي وقبض روحه. فلم يستطع الشيخ أن ينطق من الفزع، ولا الأب من الحزن، فخرج الشيخ مسرعًا، وتبعه الملاك.
وفي اليوم الثالث، لم يجدا مكانًا يبيتان فيه إلا بيتًا مهجورًا شبه متهدم، فآويا إليه. جلس الشيخ ليأكل، فعاد رفيقه إلى عمل غريب، إذ بدأ يهدم البيت، وبعد أن هدمه، شرع في بنائه من جديد.
فلما رأى الشيخ ذلك، لم يعد يحتمل، فقال له بغضب:
«أتكون شيطانًا أم ملاكًا؟ ماذا تفعل؟»
فأجابه: «وماذا فعلتُ؟»
قال الشيخ: «أما تعلم؟ في اليوم الأول أخذت طبقًا من رجل صالح ورميته في البحر؛ وفي الثاني حرمت رجلًا صالحًا من ولده؛ واليوم تهدم هذا البيت ثم تبدأ ببنائه! لماذا فعلت كل هذا؟»
فأجابه الملاك: «لا تتعجب أيها الشيخ ولا تتشكك من جهتي، بل استمع لما أقوله لك. أما الرجل الأول الذي استضافنا، فهو حقًا يرضي الله في كل شيء، غير أن الطبق الذي رميته كان قد اقتناه ظلمًا، ولذلك طرحته، لكي لا يفقد بسببه أجره. وأما الرجل الثاني فهو أيضًا مرضيٌّ عند الله، ولكن ابنه لو كبر لكان شريرًا فظيعًا، لذلك أخذت روحه لأجل صلاح أبيه ولأجل خلاص نفسه أيضًا».
فسأله الشيخ: «وأما هذا البيت، فماذا يعني ما فعلت؟»
فأجاب الملاك: «كان صاحب هذا البيت رجلًا فاسد الأخلاق، فافتقر لهذا السبب وهرب. أما جدّه الذي بنى هذا البيت فقد خبأ ذهبًا في الجدار، ويعلم بعض الناس بهذا الأمر. لذلك هدمت البيت حتى لا يبحث أحدٌ بعد الآن عن الذهب فيه فيهلك بسببه».
ثم ختم الملاك كلامه قائلًا: «ارجع يا شيخ إلى قلايتك ولا تتعب نفسك، لأن الروح القدس يقول: أحكام الرب بحر عميق، لا تُستقصى ولا تُدرَك بالعقل البشري، فلا تفتّش عنها، لأن ذلك لا ينفعك». ثم اختفى الملاك عن عينيه، أما الشيخ فندم على ضلال فكره، وصار بعد ذلك يقص على الجميع ما جرى معه.
فلنُخضِع يا إخوة عقولنا، ولا نسعَ إلى ما لا نستطيع إدراكه من أعمال العناية الإلهية. وهل يمكن غير ذلك وعقولنا محدودة ومظلمة بالخطيئة، بينما الله غير محدود في كل كمالاته، ومعرفته وحكمته بلا حدود؟ واجبنا أن نتبع مشيئة الله، ونقبّل يده التي ترحمنا وتؤدبنا، وأن نجاهد في الفضيلة، محافظين على التسليم لإرادة الله. آمين.
No Result
View All Result