
من هم المسيحيُّون؟
دخل ليشتري سمكًا فوجد صيدًا وفيرًا لم يكن يتوقَّعه. ففي حوالي العام 1436م وقع نظر كاهن لاتينيٍّ إيطاليِّ الجنسيَّة يدعى Thomas d’Arezzo (أي هو من منطقة Arezzo في إيطاليا) على مخطوطة داخل محلٍّ لبيع الأسماك في القسطنطينيَّة حيث كان في زيارة إلى هناك. كانت المخطوطة ضمن الأوراق المستخدمة للفِّ السمك للزبائن، وهي كناية عن جزء من codex يحوي 21 كتابة مسيحيَّة أخرى. فسارع الكاهن إلى شرائها على الفور. وقد تبيَّن أنَّها تعود إلى القرن الثالث/الرابع عشر الميلادي، وأنَّها تحوي على مجموعة من النصوص المسيحيَّة المبكرة، من بينها نسخة لنصٍّ مسيحيٍّ مهمٍّ جدًّا يعود إلى أواخر القرن الميلاديِّ الثاني عُرِفَ لاحقًا بالرسالة إلى ذيوغنيتس (Epître à Diognète). بدأ دراستها الجدِّيَّة في نهاية القرن السادس عشر، وتنقَّلت بين مكتبات مختلفة إلى أن رست في مكتبة Strasbourg في فرنسا سنة 1842م. لكنَّها احترقت مع غيرها من الكتب والمخطوطات نتيجة حريق شبَّ في المكتبة خلال الحرب الفرنسيَّة – البروسيَّة في العام 1870م ، ولكن لحسن الحظِّ كان قد تمَّ نسخها ثلاث مرَّات بهدف دراستها.
اختلفت الدراسات حول مكان الرسالة وعن شخصيَّة ذيوغنيتس في ما إذا كانت حقيقيَّة أو رمزيَّة، فالاسم ذكر مرَّة واحدة في الرسالة مع لقب يُمنح آنذاك لكبار الموظَّفين المنتمين إلى طبقة الفروسيَّة الرومانيَّة. كانت رتبة الفروسيَّة (أو فرسان روما)، اعتبارًا من القرن الأوَّل، تجمع نخبة اجتماعيَّة تلعب دورًا حيويًّا في إدارة الإمبراطوريَّة الرومانيَّة. وكان أعضاؤها يشغلون مناصب حكَّام، ومحاسبين (procurateurs)، وكبار الموظَّفين. وبحسب المؤرِّخ التاريخيِّ Henri-Irénée Marrou (1904-1977م) قد يكون كلوديوس ذيوغنيتوس، حاكمًا من طبقة الفرسان عُيِّن في مصر بين عامي 197 و202م.
كاتب الرسالة مجهول الهويَّة فهو يعرِّف عن نفسه كتلميذ مسيحيٍّ «Disciple Mathetes (Μαθητής)» وإن حاول البعض أن ينسبها إلى بعض رجال الكنيسة المعروفين مثل القدِّيس كليمنضوس الإسكندريِّ (150 – 215م) أو Pantaenus الَّذي كان فيلسوفًا رواقيًّا قبل اعتناقه المسيحيَّة وتتلمذ الأوَّل على يده، وصاحب مدرسة شهيرة في الإسكندريَّة. أمَّا مضمون الرسالة فهو رائع جدًّا وعميق ولاهوتيٌّ دون أدنى شكٍّ. الرسالة مكتوبة باللغة اليونانيَّة وتمثِّل دفاعًا مسيحيًّا بمثابة مرافعة «Apologétique chrétienne» عن «من هم المسيحيُّون وكيف يعيشون؟».
تقسم الرسالة إلى 12 فصلًا بدءًا بالسلام والتحيَّة لذيوغنيتس ومن ثمَّ تتوالى المواضيع عن الإيمان المسيحيِّ وكيف أنَّ المسيحيِّين يعبدون إلهًا واحدًا أعلن عن نفسه للبشر، وهو إيمان عن يقين وليس نتيجة تكهُّنات بشريَّة مثل الوثنيَّة. وكيف أنَّ المسيحيِّين لا يقومون بأيِّ فساد في العالم وهم يتميَّزون بالفضائل الروحيَّة وبمسلكيَّتهم الَّتي تنبعث من إيمانهم، وعلاقتهم مع الآخرين هي علامة محبَّة وتسامح وسلام كما نصلِّي في طلباتنا: «بسلام إلى الربِّ نطلب»، وحياتهم الاجتماعيَّة في المجتمع وفي بيوتهم وعائلاتهم وتربية أولادهم، وتتكلَّم الرسالة عن التضامن الأخويِّ بين المسيحيِّين، وأنَّهم يختلفون عن اليهود بممارساتهم الدينيَّة، ويحافظون على طهارتهم ولا يفسدهم العالم الساقط ويشخصون للملكوت السماويِّ والحياة الأبديَّة. إنَّها رسالة لا تخصُّ فقط المسيحيِّين المؤمنين بل هي أيضًا بمثابة دعوة للآخرين لاعتناق المسيحيَّة، بحيث يرون في المسيحيِّين المثال الأفضل والأسمى.
الفقرة الَّتي تتكلَّم عن حياة المسيحيِّين بمعنى طريقة حياتهم المنبثقة من طريق حياتهم الَّذي هو الربُّ يسوع المسيح كما قال عن نفسه: «أنا هو الطريق والحقُّ والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلَّا بي» (يوحنَّا 14: 6)، تُختصر بثلاث كلمات: «المسيحيُّ إنجيل حيٌّ». وعندما يتكلَّم أعمال الرسل عن أنَّ التلاميذ دُعوا «مسيحيِّين» في أنطاكية أوَّلًا، فهو يعني بذلك أنَّ طريقهم الوحيد في الحياة هو المسيح. وكم هو جميل ما قاله شاول عن المسيحيِّين قبل أن يهتدي إلى المسيحيَّة ويصبح بولس الرسول، وكان ينكِّل بهم، وكان مزمعًا أن يذهب إلى دمشق ليعتقل المؤمنين بالربِّ يسوع هناك، وتقدَّم إلى رئيس الكهنة اليهوديِّ وطلب رسائل في ذلك قائلًا: «حتَّى إذا وجَدَ أُناسًا من الطريق، رجالًا أو نساءً، يَسُوقُهم موثَقين إلى أورشليم» (أعمال 9: 2). كان يطلق على المسيحيِّين في البداية لقب «أهل الطريق».
الرسالة تشرح بأجمل العبارات من هم أهل الطريق، فيقول مثلًا: «ليست تعاليمهم ثمرة خيال بشريٍّ أو أوهام عقول قلقة، ولا يتبنَّون مذهبًا من صنع الإنسان كما يفعل كثيرون». وهم يقيمون في المدن و«يُظهرون أسلوب حياة عجيبًا حقًّا وساميًا على العادة. يعيش كلٌّ في وطنه، ولكن كأنَّه غريب فيه (لأنَّ وطنه الأوَّل هو السماء). يشاركون المواطنين في كلِّ الواجبات». هذا يعني بتمام العبارة أنَّهم مثال يحتذى به، في حياتهم اليوميَّة والإيمانيَّة والروحيَّة والشخصيَّة والاجتماعيَّة والوطنيَّة، ولا يتخاذلون بشيء، بل على العكس تمامًا هم: «كما أنَّ النفس في الجسد، هكذا المسيحيُّون في العالم، كالروح في الجسد».
ويكمل: «يعيشون في الجسد، لكنَّهم لا يسلكون بحسب الجسد. يقيمون على الأرض، لكنَّهم مواطنو السماء. يطيعون القوانين، غير أنَّ حياتهم تفوق القوانين كمالًا. يحبُّون الجميع، والجميع يضطهدهم. يُجهَلون فيُحكم عليهم ظلمًا، يُقتَلون وبهذا يجدون الحياة. فقراء هم، ومع ذلك يُغنون كثيرين. يفتقرون إلى كلِّ شيء، لكنَّهم يفيضون في كلِّ شيء. يُحتقرون، وفي هذا الاحتقار مجدهم. يُشتَمون، فيبارِكون. يُهانون، فيكرمون. يفعلون الخير ويُجازَون بالشرِّ، ويُعاقَبون كالمجرمين، ولكنَّهم في عذابهم يبتهجون كأنَّهم يولدون للحياة».
ولعلَّ أجمل ما يقوله: «المسيحيُّون يزدادون عددًا كلَّما اضطُهِدوا». وذلك بمعنى أنَّ المسيحيِّين لا يخافون موت الشهادة، والمسيحيَّة هي المشروع الإلهيُّ لخلاص الإنسان.
في الخلاصة، إذا كنَّا ننكبُّ على معرفة تاريخ إيماننا فلكي نحياه ونكبر في المحبَّة الإلهيَّة النازلة علينا من فوق، وليس لننتفخ كما تقول الرسالة نفسها: «المعرفة تنفخ، أمَّا المحبَّة فتبني».
وفي ختام الرسالة يقول الكاتب: «فمن يظنُّ أنَّه يعرف شيئًا من دون المعرفة الحقيقيَّة — المعرفة الَّتي تشهد لها الحياة — فهو في الحقيقة لا يعرف شيئًا، بل يُخدع بالحيَّة لأنَّه لا يحبُّ الحياة. أمَّا من يجمع بين المعرفة والمخافة، ويسعى نحو الحياة، فإنَّه يغرس في الرجاء، منتظرًا الثمر». والحياة هي المسيح لأنَّ يسوع هو الحياة.
إلى الربِّ نطلب.
الأب أثناسيوس شهوان
18 ت1 2025
No Result
View All Result