
قصة روحية: توبة اللص
كان يعيش في الأزمنة القديمة إنسان أسود اللون يدعى لاونديوس حياةَ لصٍّ. كان رجلاً طويلاً جدًّا ذات ملامح مخيفة اعتاد أن يسرق وينهب في كلّ مكان وُجد فيه أو كلّ من صادفه. وبسبب شكله المرعب، كان كلّ من شاهده يرتجف خوفاً، ويحاول الابتعاد عنه خوفاً من أذيّته وشرّه. ولكنّ هذا الأسود الجبّار شاهد ذات ليلة حلماً غيّر مجرى حياته:
رأى نفسه يقف وسط سهل لا حدود له، وفي لحظة معيّنة أدار نظره، فشاهد نهراً من النار عظيماً بطوله وعرضه يبتلع كلّ شيء في سيره حتّى التراب والصخور، ويهدر هديراً أثناء جريه مُصدراً ضجيجاً كبيراً بسبب جيشان أمواجه وتخبّطها. سار الرجل الأسود قليلاً إلى الأمام، وإذا بأربعة أمواج متلاحقة من اللهب قد خرجت من النهر، واختطفته بسرعة فائقة، وسحبته حتّى ترمي به في النهر الملتهب وتحرقه. وإذا به يسمع صوتاً يخرج من الأمواج الناريّة يقول له: “أيّها الشقيّ، لو تبت عن حياتك الأثيمة، وكففت عن جرائمك، لما كنّا استطعنا أن نجذبك إلى ههنا”.
استفاق اللصّ مرتعباً، واستحوذ عليه دوار شديد، واشتملته رعدة بسبب المشهد المخيف، وأخذ يتساءل ما عسى أن يكون المقصود بذلك الحلم؟
وإذ لم يجد تفسيراً، قرّر الذهاب إلى راهب متوحّد، ليسأله ما يمكن أن يكون هذا النهر الناريّ الذي حلم به…
وللحال، سار قاصداً أحد الشيوخ المتوحّدين. وبعد مدّة قصيرة من سيره، رأى قلاّية منعزلة، فدنا منها وطرق الباب، ففتح له شيخ وقال له:
– الحمد لله على سلامتك يا لاونديوس! كيف تحمّلت هذه المشقّة الكبيرة حتّى وصلت إلى ههنا؟ هل أقلقك يا ترى النهر الناريّ، والأمواج الناريّة الأربعة التي سحبتك لتلقي بك في الداخل؟ كم هو مخيف حقّاً، يا بنيّ، مشهد ذلك النهر!! هل تريد أن تنجو من عذابه؟ إذاً، تبْ عن أعمالك اللصوصيّة، وابك على خطاياك التي فعلتها، وعندها ستخلص…
سمع اللصّ أقوال الناسك بانذهال شديد، إذ كيف تأتّى له أن يعرف حلمه قبل أن يقصّه عليه، فسقط، للوقت، عند قدميه وقال:
– أشفق عليّ، أيّها الأب المكرّم، أنا الأسود جسداً ونفساً. ارحمني، أنا الشقيّ، وأرشدني كيف أستطيع أن أرضي الله.
– على ما أرى، يا بنيّ، يجب، قبل كلّ شيء، أن تتخلّى عن أعمالك اللصوصيّة، وأن تقدّم توبة صحيحة عن خطاياك ومآثمك بواسطة الصلوات المتواصلة والأصوام والأسهار ودموع التوبة.
– ولكنّي ضعيف، يا أبي، ولا أستطيع بمفردي أن أقوم بهذه الإرشادات.
– هل تستطيع الإقامة في صومعة؟
– أستطيع.
– إذًا، تعال لأريك قلاّية صغيرة كائنة بالقرب من منسكي، وسوف تقيم فيها محاولاً تطبيق ما قلته لك، وأنا بدوري سأهتمّ بك وبتشديدك، مرافقاً إيّاك في صلواتي وإرشاداتي. ولكن يجب ألاّ تنسى أنّك ستلاقي صعوبة، بادئ الأمر، في هذا الجهاد الذي لم تتعوّده، ولكن عندما يرى الله استقامتك في الجهاد، وتوبتك الصادقة سيمدّك بمعونته ويثبّتك في طريقك ويسندك.
وهكذا بعدما لقّنه الراهب الشيخ واجبات الحياة الرهبانيّة وأصولها، تركه في القلاّية، بعدما منحه بركته. أمّا صاحبنا الأسود، فبدأ جهاده بدموع حارّة وأسهار يوميّة وصلوات مستمرّة. وكان مساء كلّ يوم يذهب إلى الراهب الشيخ ليعترف له بما تعرّض له أثناء النهار. فكان الشيخ يلقّنه كيف يجابه أفكاره الشرّيرة بالنسك الشديد والتواضع، ويشدّده بمواصلة الجهاد.
وبعد فترة، وصل هذا الأسود إلى قامة عالية من الفضيلة، بحيث عندما كان يصلّي، يصير عموداً ناريّاً، ويسطع وجهه بالنور. وكانت هناك آلاف لا تحصى من الشياطين تهجم عليه، محاولة زرع الأفكار السيّئة في داخله، ولكنّه كان يهزمها كلّها بإشارة الصليب. كما أنّ نعمة الله فتحت ذهنه ليفهم الكتاب المقدّس وأقوال الآباء القدّيسين، فكتب كتباً تفسيريّة كثيرة، وبعث رسائل إلى عديدين كانوا يسألونه الإرشاد، فنفعهم جميعاً معلِّماً إيّاهم السلوك في طريق المسيح بوضوح ونقاوة.
وعندما مات هذا الأسود اللون، أفاضت بقاياه المقدّسة طيباً جزيلاً صار دواء يشفي المرضى والسقماء الذين كانوا يقصدونه ويطلبون شفاعته بإيمان كما أكّد الناس في تلك المناطق.
No Result
View All Result