
من كتاب: “الله والعالم”
قال لي أحدهم: أنا لا أشعر بأي حضور لله، حتى عندما أذهب إلى الكنيسة يوم الأحد. لا أرى سوى أن لا شيء موجود.
ليس الله كائناً يمكننا إرغامه على الحضور في لحظات معينة. نحن نجد الله فقط عندما نتخلى عن إخضاعه لمعايير وشروط إثبات الوجود، وعندما ننظر إليه كإله. والنظر إليه كإله يعني إقامة علاقة مختلفة تماماً معه.
يمكنني أن أدرس الأشياء المادية من منظور عملي وأن أخضعها لأنها خاضعة لي. لكن حتى الإنسان الآخر لا أستطيع فهمه إذا عاملته بهذه الطريقة. على العكس، لا أستطيع أن ألمس شيئاً من شخصيته إلا إذا بدأت أتعاطف معه وأتقمص حالته النفسية.
الأمر نفسه يحدث مع الله. لا يمكنني البحث عن الله وأنا أرتدي ثوب المتسلّط. بل يجب أن أنمّي في نفسي موقف الانفتاح والاستعداد والبحث. يجب أن أكون مستعداً للانتظار بتواضع، وأن أسمح له بأن يظهر كما يشاء هو، لا كما أريد أنا.
ولكن أين يوجد الله بالتحديد؟
إنه ليس في مكان محدد، إذ لا يوجد مكان ليس الله حاضراً فيه، لأنه موجود في كل مكان. لكنه لا يمكن أن يكون هناك حيث توجد الخطيئة. الله موجود في كل مكان، ولذلك هناك درجات مختلفة من القرب منه، لأن كلما ارتفع مستوى الكائن، اقترب أكثر منه. وحيثما تنفتح العقول وتُشرق المحبة، يتحقق نوع جديد من القرب من الله، شكل جديد من حضوره. الله إذن يوجد حيثما يوجد الإيمان والرجاء والمحبة، لأن هذه — بخلاف الخطيئة — ترسم الفضاء الذي يسمح لنا باقتحام أبعاد الله.
ومن هذا المنظور، الله حاضر في كل موضع يحدث فيه خير، حاضر هناك بطريقته الخاصة، وبالطبع، بما يتجاوز مجرد الحضور الكوني العام، ويمكننا أن نلقاه ونلمس حضوراً أعمق له حيثما نقترب من تلك الأبعاد التي تتطابق أكثر مع جوهره الأعمق، الحقيقة والمحبة والخير.
لكن هل يعني هذا الحضور الأعمق أن الله ليس في مكان ما من الكون، بل هو هنا بيننا؟ حاضر في كل إنسان؟
نعم، يقول ذلك القديس بولس في الأريوباغوس عندما خاطب أهل أثينا: «فيه نحيا ونتحرّك ونوجد».
كوننا نتحرك ونوجد في جوّ الله الخالق هو أمر صحيح حتى من وجهة النظر البيولوجية البحتة. وهو أصدق وأعمق كلما توغلنا في نمط الوجود الإلهي ذاته. ويمكننا أن نعبر عن ذلك بالقول: حيثما يفعل إنسان خيراً لإنسان آخر، هناك يكون الله قريباً بشكل خاص. وحيثما، في الصلاة، يفتح إنسان قلبه لله، سيشعر به قريباً منه على نحوٍ خاص.
الله ليس كياناً يمكن تحديده وفق مقولات فيزيائية أو مكانية. قربه لا يُقاس بمعايير المسافة المادية، لا بالكيلومترات ولا بالسنين الضوئية. قرب الله هو قرب قائم على مقولات الكينونة. فحيثما يوجد ما يعكس جوهره ويجسده — حيثما توجد الحقيقة والخير — هناك نلمسه على نحوٍ خاص، هو الحاضر في كل مكان.
الكاردينال جوزيف راتسينغر
من الفصل الثاني من كتاب: “الله والعالم” : أن تكون مسيحياً في الألفية الجديدة»
No Result
View All Result