
الحنان والسلطة
تلك القوة التي منها يستمد الولد طاقة النمو والانطلاق نابعة من حب الوالدين، ولكن هذا الحب له مظهران متكاملان، لا بد من وجودهما كليهما معا، ألا وهما الحنان و السلطة. حنان الوالدين صورة لحنان الله ومساهمة به. بحنان الله توجد الكائنات وتحيا، كذلك الطفل يحتاج، لينمو جسديا وعقليا ونفسيا، لا إلى الغذاء و العناية الجسدية و حسب، بل إلى حنان الوالدين. هذا ما أثبته علم النفس الحديث بشكل قاطع. الولد الذي يحس بأنه محبوب يكتسب ثقة عميقة بنفسه و بالكون و بالآخرين و بالله نفسه فتتوفر لديه أفضل الشروط لإنماء ممتلكاته كلها و تفجير طاقة الحب فيه. هذا شرط أن لا يكون حنان الوالدين خانقا يستأثر بالولد فيكبله و يشله، بل أن يحفظ للولد ذلك الكيان الذاتي الذي رأينا الله يهبه لمخلوقاته، أن يكون تعلقا و انقطاعا بآن.
أما السلطة الوالدية، فإنها صورة عن تعالي الله، ذلك التعالي الذي بموجبه لا يمكن للمخلوق أن يكتفي بذاته، إنما يحقق ذاته بتجاوز مستمر لذاته في إسلام ذاته لله. سلطة الله إذا ليست تسلطا أو سلطوية، ليست سحقا للمخلوق من أجل “إثبات وجود” الخالق إنما هي دعوة للمخلوق إلى قبول تجاوز محدوديته التي يرتاح إليها، إلى قبول ” الموت عن ذاته” بعبارة أخرى، للمساهمة في ملء وجود الخالق. بهذه الروح تمارس سلطة الوالدين في عائلة متسمة بالطابع الكنسي. فلا يستقيل الوالدان فيها
( عن عدم ثقة بالنفس أو طمع في شعبية رخيصة أو حنين لا واع إلى انفلات للغرائز يحققانه من خلال أطفالهما) و لا يتسلطان بدافع نرجسية طفلية لا تزال متحكمة بهما لكنهما يحاولان تغطيتها و تبريرها بحجج تربوية مزيفة)، إنما يمارسان سلطتهما الوالدية بتأن و تفهم و مرونة. و هكذا يساعدان الولد على أن يتخطى تدريجيا حلم الإقتدار الكلي الذي يتحكم به في بدء حياته و يوهمه بأنه محور الكون، فيكتشف حدوده ويقر بواقع الأشياء واستقلال الآخرين عنه.
ولكنه، بتخليه هكذا عن سلطانه الوهمي، يكتسب واقعية هي مصدر قوة له حقيقية، فيصبح فاعلا في الكون عندما يكتشف أن الكون متميز عنه، و يصبح قادرا على الدخول في شركة مع الآخرين إذا وعى استقلالهم عنه، و يصبح قادرا على إقامة صلة بالله حقيقية إذا تحرر من الإعتقاد السحري بأن الله مسخر لتحقيق أمانيه.
*كتاب العائلة كنيسة*
No Result
View All Result