
المجوسي الرابع…
قصة ميلادية روسية
ترجمة : عامر هلسا
هدايا أرطبان
في أيام الملك هيرودس في مذود حقير قرب بيت لحم ولد مخلّص العالم المسيح . فجأه أضاء في السماء نجم بنور عظيم لم يُر مثله من قبل . كان يشع بنور ساطع و يتحرّك ببطء متقدماً باتجاه أرض اليهودية . لفت هذا النجم انتباه راصدي النجوم أو كما يسمّونهم المجوس، و بحسب رأيهم كانت هذه علامة إلهية تدلّ على مولد الملك العظيم و منقذ البشر و معلّم حياة برّ جديدة المتنبّأ عنه قديماً في كتب اليهود .
فقرّر بعض المجوس و خصوصاً المتشوّقين منهم إلى البرّ الإلهي على الأرض و المتألمين من آثام البشر الكثيرة التوجه للبحث عن الملك المولود ليقدّموا سجوداً و عبادة له . و لكنهم لم يعرفوا أين و كيف يبحثون . كان أمامهم طريق طويل جداً (و خاصة أن الطرق في تلك الأيام كانت خطرة) فقرّروا أن يجتمعوا في مكان واحد و من هذا المكان يتوجهوا للبحث عن ملك الحق و البرّ و الخير بقافلة واحدة.
و كان من بين المزمعين على البحث العالم الحكيم الفارسي أرطبان . و كان قد باع قصره الذي يمكله في العاصمة و اشترى من ثمنه ثلاثة أحجار كريمة : حجر صفير و حجر عقيق أحمر و لؤلؤة . كانت هذه الأحجار ذات أثمان باهظة ، و قد دفع مبلغاَ هائلاً ليشتريها ، و كان جمالها نادراً ،
فكان الحجر الأول يضيء مثل جزء من السماء المملوءة بالنجوم في ليلة صافية ، و كان الثاني متوهجاً كالجبال الأرجوانية عند غروب الشمس ، أما الثالث فكان في لمعانه يفوق جبال الثلج بياضاً .
و فكر أرطبان في أن يضع هذه الأحجار بقلب ملتهب بالحب عند قدميْ الملك المولود . فجمع أصدقاءه و معارفه لآخر مرة في بيته ليودّعهم قبل السفر. كان عليه السفر لعدة أيام ليصل إلى مكان تجمّع القافلة ، و لكنه لم يخشَ من التأخير لأنه كان قد حسب الوقت بدقة . كان حصانه جيّداً ، و كل يوم كان يقطع المسافة اللازمة .
لم يبق له إلا بضع العشرات من الفراسخ في آخر يوم فقرّر أرطبان أن يواصل السفر ليلاً ليصل في الصباح إلى مكان تجمّع القافلة . ومع نسمات الليل العليلة كان يضيء في الأفق الأسود اللامتناهي النجم الجديد و كأنه قنديل مضيء أمام عرش الله . فصاح أرطبان متابعاً النجم بناظريه : “هذه هي علامة الله ، فإن الملك العظيم آتٍ إلى أرضنا و سوف أشاهدك قريباً يا إلهي لأسجد و أقدّم عبادة لك” .
و شجّع ارطبان حصانه قائلاً : “بسرعة يا صديقي ، ضاعف خطواتك” فأطاعه حصانه الوفي و نهج مسرعاً . و سُمع صوت حوافره في روضة النخيل . و شقشق الفجر و سُمع تغريد الطيور و اقترب الصباح .
و فجأة توقّف الحصان و صهل وبدأ يتراجع إلى الخلف . و أمعن أرطبان النظر في الطريق عند أقدام الحصان و رأى إنساناً ملقياً على الأرض . فترجّل عن الحصان و توجّه نحوه . كان ذلك الرجل يهودياً خائر القوة بسبب الحمى المنتشرة في تلك المنطقة . كان من الممكن اعتباره ميّتاً من الوهلة الاولى لولا أنين ضعيف متقطع يصدر من المريض .
فكّر أرطبان : ما العمل ؟ لم يسمح له ضميره أن يتابع السفر و يترك المريض ، و لكن إذا تأخر عن الموعد المتفق عليه فستنطلق القافلة بدونه . فقرّر متابعة السفر و همّ بامتطاء ظهر الحصان و لكن المريض كأنه شعر بأنه سيُترك فأنّ بألم و اخترق أنينه قلب أرطبان . فقال : “يا إلهي الرحيم ، أنت تعرف أنني مسرع في البحث عنك و لكنني لا أستطيع أن أترك المريض و يجب أن أساعد هذا اليهودي المسكين” . و تقدّم نحو جدول الماء و أخذ ماء و رشّ صدره و وجهه ، و أخرج أدوية من خرج حصانه و مزجها بالخمر و صبّها في فم اليهودي . و قضى معه ساعات حتى توسّطت الشمس السماء و اقترب منتصف النهار . و أخيراً تحسّنت حالة المريض و وقف على رجليه . لم يكن يعرف كيف يشكر هذا الغريب الصالح و سأله : “من أنت حتى نشكر الله أنا و أسرتي لأجلك كل أيام حياتنا ؟ إلى أين أنت ذاهب و لماذا هذا الحزن على محيّاك؟” فعرّفه أرطبان بنفسه و أعلمه بقصده و بوجهة سفره ، و أنه حزين بسبب تأخّره عن القافلة و أنه أضاع الفرصة لرؤية الملك العظيم .
فقال اليهودي و بدت على وجهه إمارات الفرح : “لا تحزن أيها الفاضل ، أستطيع أن أساعدك قليلاً ، تقول كتبنا المقدّسة إن الملك الموعود من الله سيولد في مدينة بيت لحم اليهودية . فانطلق إلى هناك و إذا كان المسيّا قد ولد فستجده هناك.” و شكر اليهودي أرطبان مرة أخرى و ودّعه و مضى في طريقه .
كان من الخطر على أرطبان السفر وحيداً في الصحراء ، و كان لا بد من إعداد قافلة و استئجار الحرس و الخدم و شراء مؤونة من الطعام و الماء . و اضطرّ أرطبان إلى بيع أحد الأحجار الكريمة . و لكنه لم ييأس لأنه بقي معه حجران و كان هدفه أن يصل في الوقت المناسب إلى اليهودية ليرى الملك . و لذلك كان يأمر الخدم بالإسراع . و انطلقت القافلة .
و أخيراً ها هي بيت لحم ، و بلغ أرطبان المدينة و كان مرهقاً و معفراً من غبار الطريق و لكنه كان فرحاً مسروراً ،
و اقترب من أحد البيوت و دخله فوجد امرأة في البيت ، و انهال عليها بالأسئلة : ألم يكن هنا في مدينتكم أناس غرباء ؟ و إلى من أتوا ؟ و أين هم الآن ؟ و كانت صاحبة البيت إمرأة شابة على صدرها طفل رضيع ، استغربت في البداية من منظر أرطبان و اضطربت ، و لكن ما هي إلا لحظات و زال الخوف عنها و أجابته بأنه منذ عدّة أيام مضت كان هنا أناس غرباء يبحثون عن مريم التي من الناصرة ، و أحضروا هدايا ثمينة لابنها المولود ، و لكن أين هم الآن فذلك غير معروف . في تلك الليلة اختفت مريم و يوسف و الطفل المولود ، و يقول الناس بأنهم رحلوا إلى مصر لأن ملاك الربّ ظهر ليوسف في الحلم و أمره بأن يترك المدينة و يغادر إلى مصر .
و بينما هي تجيبه على أسئلته نام الرضيع على صدرها و ارتسمت على وجهه الوديع ابتسامة بريئة . و فكّر أرطبان ماذا عليه أن يفعل، و فيما هو مستغرق في التفكير ، فجأه سمع صوت ضجيج في الخارج و صليل سيوف و عويل نساء يقطّع القلب ، فركض أرطبان نحو النافذة فرأى في الشارع نساء شبه عاريات منفوشات الشعر يركضن كلّ في إتجاه و يصرخن بألم : أنقذونا ! أنقذونا ! جنود هيرودس يقتلون أطفالنا ! نظر أرطبان إلى المرأة الشابة و كان وجهها قد أشحب و عيناها قد جحظتا من الهلع و الخوف و ضمّت رضيعها إلى صدرها و بصعوبة تمتمت ببضع كلمات : أنقذه ، أنقذ الطفل و الله سينقذك .
و توجّه أرطبان بسرعه ليغلق باب البيت ، و لكن الجنود كانوا قد وقفوا أمام الباب ملطّخين بدماء الأطفال الأبرياء . و مدّ أرطبان يده نحو عبّه حيث كان كيس صغير و أخرج منه حجراً كريماً و قدّمه إلى قائد الكتيبة قائلاً : “هاك ، خذه ، اذهب و اترك هذه المرأة بسلام” . فانبهر قائد الكتيبة من منظر الحجر الذي لم يرَ مثله في حياته أبداً ، و مدّ يده بجشع و أخذه ، و أمر جنوده بأن يتركوا المكان بسرعة ، و مضى الجنود ليتابعوا مهمّتهم الدموية المخيفة في مكان آخر . فسجدت المرأة على ركبتيها أمام أرطبان و قالت له بصوت ملؤه الامتنان و الشكر : “ليباركك الرب الإله من أجل إنقاذك لطفلي ، أنت تبحث عن ملك الحق و البرّ و الخير ، ليكن بهاء وجهه أمام وجهك و لينظر إليك بالمحبّة التي أنظر أنا بها إليك” . فأمسكها أرطبان من يدها و أقامها بلطف ، و انهالت الدموع على وجنتيه و هي دموع فرح و دموع حزن في آن واحد و همس قائلاً : “يا إله الحق سامحني ، من أجل هذه المرأة و طفلها أعطيت الحجر الكريم الذي خصّصته لك . تُرى هل سأرى وجهك يا سيدي ؟ ها أنا تأخّرت مرّة أخرى في المجيء إليك . سأذهب وراءك إلى مصر” .
و ارتحل أرطبان من بلد إلى بلد يبحث عن ملك الحق و البرّ و الخير ، بحث طويلاً و لكنه لم يجده ، و احتفظ باللؤلؤة و هي كنزه الوحيد الذي بقي معه مخبئاً إيّاها متمنياً أن يقدّمها إلى الملك العظيم . و كان قد تبقّى معه مال وفير من بيع الحجر الأول ، لذلك كان يساعد الفقراء و يعالج المرضى و يأوي الأيتام و هكذا مضت السنون على أرطبان دون ان يشعر بها .
أكثر من ثلاثين سنة مضت ، و هرم أرطبان و انحنى ظهره و شاب رأسه و كلّ بصره و ضعفت يداه و رجلاه ، و لكن لم تنطفئ في قلبه شعلة الحب لذلك الذي كان يبحث عنه منذ وقت طويل . و في يوم من الأيام سمع العجوز أرطبان بأنه قد ظهر في اليهودية رسول عظيم من عند الله و هو يصنع المعجزات و يشفي المرضى و يقيم الموتى و يغيّر قلوب الخطأة و الأشرار و يجعلهم قدّيسين . فإرتقص قلب أرطبان فرحاً و قال : “الآن أصبح من الممكن أن أراك يا سيدي لأسجد لك و أقدّم عبادة لك” . و أسرع أرطبان متوجهاً إلى اليهودية .
وصل أرطبان إلى المدينة المقدّسة مع جموع الزوّار القادمين إليها ، و بدخوله المدينة رأى في الشوارع حركة غير طبيعية ، حيث كانت جموع الناس تركض باتجاه واحد . سال أرطبان : “إلى أين هم مسرعون؟” فاجابه أحدهم : “إلى الجلجثة حيث سيُصلب اليوم يسوع الناصري الذي دعا نفسه ابن الله و ملك اليهود” .
وقع أرطبان على الأرض و بكى بمرارة ، و قال بنحيب : “قد تأخرت مرّة أخرى و لم أستطع أن أراك و أن أقدّم لك عبادة يا سيدي” . و فكّر أرطبان في نفسه : “قد لا أكون متأخراً و أقدر أن أفعل شيئاً ، سأذهب وراءه إلى الجلجثة ، و سأعرض على معذبيه اللؤلؤة من أجل أن يشفقوا عليه و يعيدوا له حريته و حياته” .
و همّ أرطبان بالسعي وراء الراكضين نحو الجلجثة ، و على تقاطع الطريق قابلته مجموعة من الجنود يقودون فتاة إلى السّجن . فنظرت الفتاة إلى أرطبان و عرفت من ملابسه بأنه من بلاد فارس، و نادته برجاء : “أنا من بلادك ، لقد جاء أبي إلى هنا و مرض و مات ، و من أجل ديونه هم يريدون أن يبيعوني عبدة مكللّة بالعار ، أتوسّل إليك أنقذني.”
ارتجف العجوز أرطبان و اشتعلت في قلبه ذكريات صراع قديم كان قد واجهه عند روضة النخيل مع ذلك اليهودي و مع تلك المرأة في بيت لحم عند قتل الأطفال . فقال في نفسه : “ما العمل ؟ هل أحتفظ باللؤلؤة للملك العظيم ، أم أقدّمها مساعدة لهذه الفتاة المسكينة؟” امتلأ قلب أرطبان حباً و شفقة و قال للفتاة : “هاك يا ابنتي ، خذي اللؤلؤة و فكّي دينك و اشتري حرّيتك . أكثر من ثلاثين سنة حفظتُ هذه الجوهرة لأقدّمها للملك العظيم . و لكن يبدو أنني غير مستحق بأن أقدّم له هذه الهديّة” .
و بينما هو يتكلّم مع الفتاة فجأة أظلمت السماء بالغيوم و غطّت الأرض ظلمة كثيفة و شعاع من البرق اخترق السماء من مشرقها إلى مغربها و دُوّي صوت رعد عظيم و اهتزت البيوت و تساقطت الحجارة و سقطت قطعة كبيرة من قرميد أحد البيوت و أصابت رأس أرطبان العجوز فهوى على الأرض مترنحاً و مخضباً بدمائه النازفة من رأسه ، و انحنت الفتاة نحوه لتساعده و سمعته يقول بصوت منخفض : “يا سيدي ، متى رأيتك جوعاناً فأطعمت ؟ و متى رأيتك عطشاناً فسقيت ؟ و متى رأيتك غريباً فآويت ؟ ثلاثين سنة كنت هائماً في البحث عنك من بلد إلى بلد ، و لكني لم أعثر عليك.”
و صمت العجوز ، و هبّت نسمة ريح خفيفة داعبت الشعر الأبيض لأرطبان المحتضر . و سُمع صوت عذب و كأنه داخل نسمة الريح قائلاً : “الحق الحق أقول لك ، كلّ ما فعلته بهؤلاء فبي قد فعلت” .
و تجلّى وجه أرطبان المحتضر و رفع عينيه نحو السماء بامتنان و شكر و تنهّد براحة و أسلم الروح .
لقد انتهت تجوالات المجوسي العجوز أرطبان في الأرض بحثاً . لقد وجد أرطبان المخلّص أخيراً و قُبلت هداياه .
No Result
View All Result